د. فايز رشيد
روسيا (1) خفايا السياسة والصراع والنفوذ الصهيوني
الحلقة السابعة
زيارتي إلى عاصمة الفيدرالية الروسية تأتي بعد سنوات طويلة من مغادرتي لها آخر مرّة عام 1990. هذه المدينة التي مكثت فيها سبع سنوات لدراسة الطب. كنت أتردد عليها شهريا أثناء تخصصي في مينسك، بحكم ارتباطات مهمة. كنت أتطلع بشوقٍ عارم إلى مدينة شهدتْ جزءاً مهماً من وعيي، في ذات الوقت كنت مرهوباً منها. مدينة واسعة، بلغ اتساعها في تلك المرحلة عام 1979 حين أتممت دراستي 90 ميلاً طولاً و70 عرضاً. مكان إقامةٍ شَهِد أحداثا مهمة في حياتي. وصلنا بعد رحلة قصيرة استغرقت ساعة ونصف الساعة إلى مطار (ديميديدوفا) غربي المدينة، والذي يبعد 40 كم عن حدودها الغربية. كان المطار محليّا، مخصصاً إلى الجمهوريات الأخرى إبّان الحقبة السوفييتية، وقد أصبح الآن مطاراً دولياً بعد توسيعه. أخذت حقيبتي وخرجت دون أي تفتيش أو مفاجآت غير محببة. جمهرة من سائقي تكسيات يحيطون بكل مسافر، يعرض كلّ منهم سعره للتوصيلة! كان جاري البيلاروسي على المقعد المجاور لي في الرحلة إلى موسكو قد نصحني بركوب الحافلة، فجشع السائقين في العاصمة لا يحتمل.
خرجتُ من الباب. واحدٌ بعد الآخر يأتي إليّ ويذكر سعره .كان يتراوح بين 80–100 دولار. بصراحة كان المبلغ مرتفعاً! قارنته بما كنت أدفعه في سفراتي من مقرّ سكني، الواقع أيضاً غربي المدينة, إلى هذا المطار! لم يكن أكثر من عشر روبلات، وبتصريف الدولار في السوق السوداء, كان المبلغ يوازي ثلاثة دولارات. أثناء وقوفي بانتظار أحد الأشخاص اقترب مني سائق كبيرٌ في السنّ, عرض عليّ سعرا عاليا، فاوضته واتفقنا على أجرة بقيمة 60 دولاراً. تناول حقائبي ووضعها في سيارته، بعد أن مشينا مسافة ليست قصيرة حيث محل وقوف السيارات.
السائق أندريه عاش تفاصيل الحقبة السوفييتية، وعلى ما بدا كان متأثراً بها. كان سؤاله الصعب لي: أين سأذهب؟ أجبته : إلى فندق وسط العاصمة، وألحقتهُ بشروطي، بأن يكون جيداً وذا سعر معقول! أجابني بأن من الصعوبة توفر كل هذه الشروط في فندق واحد! طلبت منه المحاولة. كأي سائق سيارة أجرة، كان خبيراً في الفنادق. يأخذ على كلِّ زبون يحضرُه إلى واحد منها، مبلغاً من المال .فتح أندريه كمبيوتره الشخصي المحمول، ليسأل عن أسعار الفنادق التي يعرفها. كانت إما مرتفعة الأسعار أو إذا كانت أسعارها مقبولة لا يتواجد فيها غرف شاغرة ، سألني إن كنتُ أقبل بالابتعاد قليلاً عن وسط موسكو؟ لم يكن لديّ مانع. ذهبت وإياه إلى خمسة فنادق، أكثرها يطلب سعراً لليلة يزيد على مئتي دولار استمررنا في البحث.
كان يحاول التخفيف من غضبي وتوتري أثناء عملية البحث، سألني إن كنت أعرف لماذا جرت تسمية المطار بـ «ديميديدوفا»؟ أجبته نافياً بالطبع. شرح لي… كان في قديم العهد الروسي, شيخاً يسكن بالقرب من مكان إقامة المطار. يُطلق على الشيخ في اللغة الروسية اسم التحبب «ديد». كان الشيخ يُشعل في الليل مصباحاً كبيراً، يهتدي إليه الماشون في السهوب الروسية الواسعة، يُطعمهم أكلا ويسقيهم من الفودكا المحلية التي يقوم بتضييعها محلياً . أقام الشيخ في الطرف المرتفع من أرضه بيتاً بسيطاً..كان كريما يُطعم ويسقي الضيوف دون مقابل. أشهر الشيخ وكرمه في المناطق البعيدة. إكراماً للشيخ جرت تسمية المطار على اسمه مع بعض التحريف, انسجاما بالطبع مع قواعد اللغة الروسية.
كنّا قد وصلنا في رحلة البحث عن فندق، إلى شارع لينين. الشارع الرئيسي في موسكو وعلى جانبيه يقع العديد من الفنادق. سأل أندريه في أحدها، لم يكن فيها شاغرٌ واحد. دلّته الموظفة العاملة فيه إلى فندق أعرفه، ويقع بالقرب من سكن جامعة الصداقة، حيث عشت, في نهاية شارع لينين من الناحية الغربية. تذكّرت الفندق، فقد نزلتُ فيه قبلا أواخر ثمانينيات القرن الزمني الماضي. لمتُ نفسي أنني لم تذكره منذ البداية. سأل أندريه في استعلاماته، أجابوه بوجود شواغر، وأجرة الليلة تبلغ 80 دولاراً. إنه سعر مناسب بالنسبة لمستوى الغلاء الجديد في موسكو. وصلنا إليه بعد بحثٍ استمر ساعتين.
بعد ترتيب أغراضي في الغرفة الواسعة، المطلّة على شارع لينين، وعلى المبنى الأول لسكن جامعة الصداقة المجاور له، نزلت إلى بهو الفندق. استفسرت عن مطعم قريب بعد أن بلغ الجوع مني مداه الأعلى، دلّتني إحدى موظفات الفندق الكثيرات، واللواتي يتميزن بجمال روسي أصيل، على سلسلة مطاعم مجاورة للجانب الأيمن من الفندق. خرجت، محلات كثيرة في الطابق الأرضي من المبنى المربع الشكل والمتّسع. دكاكين واسعة تعرض سلعاً كثيرة. تتألق أضواؤها الموجهّة إلى السلع، المثبّتة في خزائنها الزجاجية: ملابس، أحذية، ذهب، مشروبات روحية، فروع صغيرة لبنوك عديدة، بعضها يعمل ليلاً. إنها موسكو جديدة غير التي كنت أعرفها قبل ما يزيد على العقدين.
سرت مع الرصيف الذي انحنى يمينا، محلات أخرى ببضائع تتراوح من ألعاب الأطفال إلى آخر منتجات أشهر دور الأزياء العالمية. قاربت الساعة على العاشرة مساءً، ولايزال بعضها مفتوحاً أيضاً ,هذه ظاهرة جديدة في العاصمة الروسية. فيما مضى كانت كل المحلات تُقفل أبوابها في السابعة مساء باستثناء محلات بيع الخبز والأغذية، فهذه تبقى حتى التاسعة. قطعت حدود الفندق واستمررت في السير أماماً على الرصيف، الذي طالما قطعته ماشياً من محطة المترو القريبة (يوجو زابدينا) إلى سكني.
على الجانب الأيمن، سلسلة مطاعم أرضية تحتلّ الطوابق السفلية لبنايات عديدة. كل منها مختص في أنواع طعام إحدى الجمهوريات السوفييتية السابقة، من أرمينيا إلى جورجيا, ومن لاتفيا إلى أوزباكستان. البعض منها متخصصٌ بشواء اللحم والكباب. انتقيت أحدها وجلست في صالته الخارجية.طلبت قائمة الطعام لأعرف الأسعار الجديدة، وجدتها مرتفعة لكنها مقبولة. تتكلف الوجبة ما بين 20–25 دولاراً، وهذا السعر يُعتبر معقولاً في موسكو.
أثناء انتظاري للطعام، كنت أقارن بين وقائع اكتشفتها في أوكرانيا وبيلاروسيا، وها هي تتكرر على ما يبدو في موسكو, بشكل أكثر بروزاً فيما يتعلق بالحياة في عهدين… فجأة سألت نفسي السؤال: وما فائدة المقارنة؟ ومن أجل الاستمتاع في رحلتي، قررت حاسماً قطع دابر المقارنة مع المرحلة السابقة، فالتاريخ لا يكرر نفسه. أكلت طعامي وشربتُ خفيفاً، اقتربت الساعة من منتصف الليل، قمت وعدتُ ماشياً إلى الفندق.
* * *
كنت في اليوم السابق قد هاتفت الصديقين: أحمد خزعل , وخالد ميعاري القائم بأعمال السفير الفلسطيني في موسكو (وهو موظف برتبة سفير)، بعد مغادرة السفير السابق قائد مصطفى.
الصديقان زميلا دراستي في المرحلة الأولى اتفقت معهما على زيارة السفارة ظهرا . أخذت عنوان السفارة، التي زرتها مراراً من قبل، وأعرف أنها تقعُ في حي «أربات» القديم.
في موسكو، الأسهل أن تذهب بالمترو، فهو الأسرع والأرخص، والأسلم والأقصر وقتا من زحمة السيارات.أسعار سيارات الأجرة (التاكسي) باهظة نسبياً، فمشوارٌ قصير تدفع عليه ما بين 10–15 دولارا.
اشتريت بطاقة بعشرين دولاراً من كشك متخصص, تصلح لأربعين سفرة في كل أنواع المواصلات. تضعها أمام جهاز فينفتح القاطع الآلي في وسيلة المواصلات لدخولك بإشارة خضراء. أخذت الحافلة الموصلة إلى محطة المترو القريبة. لم يختلف شيء فيه عمّا كان عليه سابقاً، نفس الوجوه والازدحام الخفيف، وذات العربات! غير أن الذي اختلف أن الجالسين على مقاعد العربات، وحتى الواقفين كانوا يحملون كتبا ويقرأون فيها. …أما الآن فمعظمهم يتطلعون إلى هواتفهم الخلوية. اكتشفت أن بعض أسماء المحطات قد تغيّر، فمثلاً المحطة المسماة بـ «هضاب لينين» تبدّلت إلى «هضاب العصافير» وغيرها أيضاً. في المحطة المعينة نزلت، سألت عن اسم الشارع المعني، دلتني عليه عاملة في المترو. قطعت المسافة إلى السفارة ماشياً مدة ثلاثين دقيقة. لم تختلف الشوارع والأزقة ولا السفارة عما كانت عليه سابقا. التقيت صديقيّ بعد سنوات طويلة. ما زالا كما هما باستثناء بعض ملامح ما تفرضه السنوات: شعر أشيب، وبعض تجاعيد الوجه!
كان لقائي بهما حاراً، طلبت منهما ترتيب لقاء لي مع كل من أحد أعمدة السياسة الروسية فومين، ووزيرالخارجية الأسبق بريماكوف، وأمين عام الحزب الشيوعي الروسي زيوجانوف. تولى أحمد الاتصال بهم، فهو المسؤول عن اللقاءات السياسية في السفارة. اتفقت مع فومين على لقاء في السفارة بعد يومين، أما الثاني فقد اعتذر مدير مكتبه عن اللقاء، لحالته الصحية ، فهو يزيد على الثمانين من عمره, وهو من سنوات لا يجري مقابلات صحفية. أما أمين عام الحزب الشيوعي، فقد كان في رحلة طويلة إلى أوروبا.
اقترح عليّ أحمد، بعض الأسماء الأخرى، منها: أحد المقربين من الرئيس بوتين ومستشاريه. وسأورد ما دار معهم في تسجيلي لأحاديثهم لاحقاً. دعاني كلاهما إلى الغداء بعد إتمام الدوام في الخامسة مساءً، اعتذرت، واتفقنا على تأجيل الدعوة إلى يومٍ تالٍ. خرجت من السفارة، وقبل أن عود إلى الفندق، تناولت غدائي في أحد مطاعم السلسلة القريبة منه.
مساء ذات اليوم: كان الجو مسائياً جميلاً تتخلله نسمات باردة منعشة للروح. مشيت باتجاه مطعم «هافانا» القريب، ولطالما تمشينا وأصدقائي إليه في سنواتٍ خلت. وصلتُ المطعم بعد أربعين دقيقة من السير. فوجئت بإعلان معلّق على الباب الزجاجي له ومكتوب فيه: بأن المطعم مغلق للصيانة. ما راعني أن اسمه قد تغيّر أيضاً. أصابني الإحباط بعد أن أكد ذلك لي شيخٌ يعمل حارسا، وظّفه المستثمر الجديد للرّد على أسئلة الزبائن! قفلت عائداً. أوقفت سيارة أجرة للعودة إلى الفندق، سألني السائق، إلى أين؟ أخبرته عن اسم الفندق الذي أنزل فيه, ويقع مباشرة على «شارع لينين»، أخبرني أن لا شارع في موسكو بهذا الاسم، سألته :وما اسم هذا الشارع الذين نسير عليه؟ إنه شارع الثقافة! أجاب.