سعود بن علي الحارثي
” .. كيف لهذه العشرات من الملايين التي توزعت على آلاف الجزر المتباعدة أن تتآلف قلوبها وتتفق كلمتها على دين واحد وفي مرحلة زمنية متقاربة وتتأثر برسالة الإسلام وتقتنع بها عن طريق مجموعات من التجار المسلمين لا غير؟ ولماذا هذا البلد دونا عن غيره المشترك معه في التاريخ والجغرافيا والعرق (سنغافورة، الفلبين، كمبوديا، تايلند، فيتنام …), وفي مركز ومعقل الديانة البوذية التي تحيط بلدانها وشعوبها بإندونيسيا؟”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولا: من المعلومة الأولى تدافعت الأسئلة
عرفنا إندونيسيا ونحن في الصفوف الأولى المبكرة في مراحل التعليم باعتبارها أكبر بلد إسلامي في العالم من حيث تعداد السكان مع جهلنا التام بأية معلومات أخرى عنها، فتدافعت الأسئلة حينها كالسيل المنهمر عن الموقع الجغرافي لهذا البلد الإسلامي الذي يضم أكبر عدد من المسلمين؟ ولماذا لم أسمع به ولم أعرفه قبل هذه المرحلة العمرية، أي كما عرفنا أسماء ومواقع العديد من الدول العربية والإسلامية وقتها؟ كون أن المعلومة الأولى عن هذا البلد الإسلامي الكبير مثيرة ومحفزة على طرح الأسئلة والبحث عن الاجابات. وعندما عرفت أنها بعيدة كل البعد عن عالمنا العربي ولا تربطها به روابط مباشرة، لا من حيث التاريخ المشترك ولا الجغرافيا ولا اللغة ولا يوجد تواصل ما، سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو تاريخي عميق مع عواصم الخلافة والإمارات الإسلامية القوية في صدر الإسلام، دمشق وبغداد والقاهرة وحلب والأندلس وغيرها؟ وبعد أن عرفت كذلك بأنها تتشكل من أكثر من سبعة عشر ألف جزيرة تقع في جنوبي شرقي آسيا على خط الاستواء بين المحيطين الهندي والهادي … تواصلت تساؤلاتي عن الكيفية أو الطريقة التي وصل بها الإسلام إلى هذا البلد النائي في الشرق الآسيوي؟ هل عن طريق الفتوحات الاسلامية في العصور الذهبية كما حدث مع بقية الدول والمناطق الإسلامية في افريقيا وآسيا وأوروبا،أم عن طريق الدعاة والهجرات المتتابعة للقيادات والعلماء المسلمين إلى أنحاء المعمورة؟ هل عبر خطابات ورسل بعث بها خلفاء الأمة وحكامها وأمرائها إلى حكام وقادة تلك الجزر والمناطق فاقتنعوا برسالة الإسلام وأسلمت شعوبهم معهم أو من خلال التجار المسلمين وانتعاش التجارة في فترات زمنية ما … ؟ وعندما وجدت ضالتي وحصلت على المعلومة، زاد تعجبي وتعمق استغرابي إذ كيف لهذه العشرات من الملايين التي توزعت على آلاف الجزر المتباعدة أن تتآلف قلوبها وتتفق كلمتها على دين واحد وفي مرحلة زمنية متقاربة وتتأثر برسالة الإسلام وتقتنع بها عن طريق مجموعات من التجار المسلمين لا غير؟ ولماذا هذا البلد دونا عن غيره المشترك معه في التاريخ والجغرافيا والعرق (سنغافورة، الفلبين، كمبوديا، تايلند، فيتنام …), وفي مركز ومعقل الديانة البوذية التي تحيط بلدانها وشعوبها بإندونيسيا؟ هل يمكن أن نعزو ذلك إلى معجزة الإسلام وقوة حجته وقيمه الإنسانية الراقية ( الرحمة والعدل والتسامح والمعاملة الحسنة والصدق والأمانة ) ؟ أم إلى بلاغة أولئك التجار وتبحرهم في مختلف العلوم وتمسكهم بقيم الإسلام المشار إليها في تعاملهم مع الشعوب الأخرى وصبرهم ومثابرتهم وصدقهم وإيمانهم العميق بما يقومون به من تبليغ الرسالة وهداية الشعوب والأمم والتأثير الإيجابي في الآخر ما ولد القناعة عند هذه الشعوب بغايات الرسالة المحمدية على ضوء تعامل التجار المسلمين معهم؟ هل هي الرحمة الالهية والهداية الربانية استثنت الشعب الاندونيسي لأمر نجهله وحكمة بعيدة عن مداركنا؟ أم أن تلك الشعوب كانت تمتلك الوعي المعرفي والفطرة السليمة والرغبة في التغيير والتجديد والقدرة على التمييز … فوجدت في عبادة وشعائر وتعاملات القادمين إلى أرضها من التجار المسلمين الفرصة لتحقيق هذه الغاية فمالت ودخلت إلى الدين الجديد دونما ممانعة …؟ قد تكون تلك العوامل والأسباب مشتركة هي ما ساهم في دخول الإندونيسيين بحمد الله وهدايته إلى دين الإسلام القويم، فأصبح هذا البلد القابع في جنوب آسيا من أكبر البلدان الإسلامية من حيث العدد ونصيرا للمسلمين وداعما لقضايا الأمة على مدى المراحل الزمنية المتعاقبة. تلك الجهود الكبيرة المتواصلة والمتتابعة التي بذلها الأوائل من الدعاة والتجار والقادة والعلماء المسلمين في نشر الإسلام بالمثابرة والإخلاص في العمل والإيمان العميق بالدين الحنيف والتمسك بأخلاق وقيم الإسلام في المعاملات والحرص على مطابقة القول بالعمل في السلوك أفضت إلى دخول أفواج من البشر إلى دين الله عز وجل، وهو انعكاس للعصور الإسلامية الذهبية، وتأكيد نقرأ نحن جيل هذا الزمان من خلاله أن تغيير واقع وحال الأمة واستعادة تلك المكانة الرفيعة الشأن مرهون بتمسك المسلمين بأخلاق وقيم ومبادئ رسالة الإسلام السمحة واقرانها بالعمل الصالح، وكلما شذوا وانحرفوا عن مضامين وجوهر تلك الرسالة تراجعت مكانتهم وضعفوا وتمزقت وحدتهم كما هو واقعهم وحالهم اليوم وتراجعت الدعوة وضعفت مكانة وشأن الدين الإسلامي عند الشعوب الأخرى.
في مرحلة تالية عرفت اندونيسيا باعتبارها واحدة من أهم دول حركة عدم الانحياز بقيادة رئيسها القوي أحمد سوكارنو الذي كان واحدا من الآباء المؤسسين لهذه الحركة مع كل من: جمال عبد الناصر وكوامي نكروما وجواهر لال نهرو وجوزيف بروز تيتو, أعظم زعماء العالم في تلك المرحلة. وقد تركزت أهم الأهداف الأساسية لدول حركة عدم الانحياز، في (تأييد حق تقرير المصير، والاستقلال الوطني، والسيادة، والسلامة الإقليمية للدول؛ ومعارضة الفصل العنصري، وعدم الانتماء للأحلاف العسكرية المتعددة الأطراف، وابتعاد دول حركة عدم الانحياز عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبرى، والكفاح ضد الاستعمار بكافة أشكاله وصوره، وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي، فضلا عن التعاون الدولي على قدم المساواة … ) . وإبّان عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لعبت حركة دول عدم الانحياز دورًا أساسيًّا في (الكفاح من أجل إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد، يسمح لجميع شعوب العالم بالاستفادة من ثرواتها ومواردها الطبيعية، ويقدم برنامجًا واسعًا من أجل إجراء تغيير أساسي في العلاقات الاقتصادية الدولية، والتحرر الاقتصادي لدول الجنوب) وخلف أحمد سوكارنو الرئيس سوهارتو الذي ارتبط تاريخ اندونيسيا الحديث به شخصيا، ذاك لأن حكمه استمر ما يقرب من ثلاثين عاما، وكان المهيمن والمؤثر على مؤسسات الدولة، ولأن العديد من الأحداث والتطورات ارتبطت بهذه السنوات الطويلة من حكمه، وما أعقبها كان نتاجا لسياساته وانجازاته واخفاقاته كذلك. وتواصلت صلتنا بهذا البلد الكبير وتعمقت شيئا فشيئا من خلال مواطنيها الذين يعملون في عمان في مهن وأعمال مختلفة، وتوافد العاملات الاندونيسيات المفضلات للعمل في منازل العمانيين كونهن يعتنقن الديانة الإسلامية، وبما يحملنه من صورة بدت أكثر وضوحا للثقافة الاندونيسية لغة ووضعا اجتماعيا واقتصاديا واحتشاما باللباس الاسلامي ومواظبة الكثيرات منهن على أداء الصلوات في أوقاتها، وما أظهرنه من مثابرة وتضحية وصبر من أجل إعالة أسرة واسعة، أطفالا وأبا وأما، وقد تمتد المظلة إلى الزوج والأقارب من الدرجة الثانية والثالثة، وأخيرا وليس آخرا من حصيلة ما يقدمه السياح العمانيون الذين زاروا المدن والجزر الساحرة في الارخبيل الإندونيسي من وصف يعبر عن الإعجاب والانبهار بطبيعة وتقدم اندونيسيا وجمال مدنها وعراقة حضارتها، وبما تم تسجيله من انطباعات وطرحه من صور ومعلومات عبر وسائل وبرامج وأدوات التواصل المتعدد الأوجه ومنتديات الانترنت والبرامج الوثائقية. وهكذا ظلت اندونيسيا تتعاظم يوما بعد آخر في نظري، وباتت واحدة من البلدان التي أتوق لزيارتها والتعرف بشكل مباشر وعن قرب عليها، طبيعة وحضارة وبشرا ومدنا وثقافة وتاريخا، وسجلتها ضمن القائمة الطويلة للدول التي أتمنى أن أهبط في مطاراتها واستمتع بعبير عطرها الفواح وبنكهة أرزها وبنها، وأتوه بمحض إرادتي في دروبها التي شهدت أحداثا وتضحيات وصراعات وطقوس كان التجار العرب والمسلمون جزءا منها ولم يكن العمانيون كما هو تاريخهم ببعيد عن هذا التأثير فقد كانوا ممن ساهم في نشر الإسلام هناك، وأتعثر في أسواقها القديمة بما صنعته يد الفنانين والمبدعين من رسومات وأعمال فنية متنوعة وقطع أثرية تعبر عن ماض مزدحم بالأحداث وحياة تواصلت عبر القرون وامتد عطاؤها حتى اليوم وتاريخ عريق وثقافة إنسانية شاركت فيها شعوب وأمم وأعراق وأديان تعاقبت وتطورت عبر المراحل الزمنية.