سعود بن علي الحارثي
” في محافظات السلطنة وولاياتها المختلفة تقدم لنا الأمطار صورة دقيقة عن طبيعة الأرض ومكوناتها من جبال وسهل ومجار للأودية والشعاب… ومدى تداخلها مع التوسع العمراني ودرجة اختلافها من مكان لآخر والاطلاع على مزايا وعيوب كل منها من حيث القدرة على امتصاص المياه من عدمه والتي تحكمها صلابة الأرض ورخاوتها، حركة المياه واتجاهاتها، مستوى تدفقها، تصريفها، مواقع تشكل الفيضانات،”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطر غيث السماء وشريان الحياة، تنهمر مياهه فتتلقاه الأرض العطشى باشتياق وحب ولهفة فترتوي وتنتعش وتبث روح الحياة إلى الحقول والينابيع والأفلاج والآبار، الطير والحيوان والشجر، فتتحول الصحاري القاحلة إلى فراش أخضر وتتفتح الأزهار وتجود الأشجار بخيراتها والنخل بتمورها ويصبح الحصاد وفيرا. إنه المطر، ولكل إنسان على هذه البسيطة قصة وأنشودة وعلاقة وارتباط وشأن مع المطر، يتغنى الشعراء بحبه وينسجون القصائد في وصفه غماما ورعدا وبرقا ونسمات هواء عليلة وقطرات صافية نقية وأثرا يبعث الحياة في كل جزء من أجزاء الكون ورائحة زكية تنبعث من الأشجار وجدران الطين والتراب المغسول بماء المطر، وتعبيرا دقيقا عن نفس تتقافز سعادة وراحة وحبورا، ينشد الأطفال أهازيج المطر وهم يلبسون ثوب الفرح ويتواثبون في الطرقات وبين الأزقة وفي الحارات والحقول تعبر مشاعرهم عن البراءة وارتباطها الوجداني بالمطر، تبدع العقول وتطرب القلوب وتتراقص النفوس فتنتج أعمالا هي القمة روعة وعمقا وغزارة وإبداعا، تغرد الطيور وتتفتح الزهور وتنشط حركة الحيوانات وتنسج قصائد عشق وغزل وتتضاعف مواليدها في مواسم المطر، جبال عمان وأوديتها وواحاتها، سمرها وغافها وسيوحها تشرح النفوس بجمالها وألوانها وأناقتها وصفائها بعد أن غسلها المطر لعدة أيام، فتشكلت الغدران وامتلأت البحيرات وتدفقت الغيول بالمياه الصافية النقية فاستقطبت شطآنها الطير والبشر والحيوان الكل سعيد فرح جذل بأيام الغيث التي مرت بها عمان فالشكر والحمد لله على هذه النعمة العظيمة نعمة الحياة. والخسارة في الأرواح والممتلكات يتسبب فيها الإنسان وليس المطر باعتدائه على مجاري الأودية وتوسعه العمراني غير المسبوق وسوء التخطيط واستهتاره وعدم جديته في أخذ التحذيرات المعلن عنها بعين الاعتبار، وتجاهله لجميع الدروس والتجارب التي تقدمها الأمطار والطبيعة على مراحل مختلفة ومتكررة. وفي عصر التقنية والانترنت وأجهزة التواصل ووسائله المتعددة والعدسات الملتقطة للحدث لحظة وقوعه المباشر، أضحى المطر وعناصره وعوامله ونتائجه مادة خصبة لالتقاط الصور والتوثيق لشكل السحب وحركتها وطبقاتها وألوانها وومضات البرق وألوان قوس قزح وكميات وحجم البرد المتساقط والشلالات الهابطة من قمم الجبال وانسياب الأودية والشعاب والطبيعة وجمالها بعد الأمطار، والتدليل على سوء التخطيط وضعف البنية التحتية والاعتداء على مجاري الأودية التي تكشفها الأمطار الغزيرة إلى غير ذلك مما يرتبط بالمطر، وتبادلها أي الصور ووضع وتصميم التعليقات الساخرة والنوادر الفكاهية والكاريكاتير التي تعبر عن الواقع مع الأصدقاء والزملاء والأقرباء ونقل
الأخبار وتطورات الموقف، وساهمت كما رأينا وتابعنا تلك الوسائل والقنوات في التضخيم ونشر الإشاعات وإخافة الناس بالمبالغة في تناول الأضرار وحجم الخسائر والإبلاغ عن أودية جارفة ونوعيات من السحب بعينها وصور عن نشوئها وحركتها للتأكيد على الكميات الهائلة من الأمطار القادمة وربطها بقصور في الخدمات وأخطاء في المشاريع وأخبار عن انهيار السدود ونشر صور قديمة وربطها بالأمطار الحديثة، وعن إجازات وهمية، وهو ما ضاعف من جهد المؤسسات الإعلامية والمسئولين في عدد من المؤسسات والقطاعات لوضع المجتمع أمام حقيقة الأوضاع دون مبالغة في الأضرار أو نكران لها ونفي الإشاعات. ومما يلاحظه المتابع لوسائل الإعلام واللقاءات التي تجرى مع المسئولين واتصالات المواطنين في مثل هذه الظروف المناخية أن المسئولين في قطاعات الشرطة والدفاع المدني والارصاد الجوية هم أكثر دقة ووصفا للواقع ووضوحا وشفافية في تقديمهم للمشهد من زملائهم في المؤسسات المدنية وقدرة على التعامل مع الأوضاع والإسهام في التخفيف من آثار ونتائج الأضرار، وهو ما عمق من ثقة المواطن ومن إشادته وتقديره لهذه الأجهزة على عكس ما هو قائم بالنسبة للمؤسسات الأخرى ومسئوليها الذين يرى المواطن بأنهم غير شفافين ولا ينقلون حقيقة الأضرار وسوء التخطيط مثلما هي عليه في أرض الواقع، ولا يبذلون جهودا مرضية تتناسب وطبيعة الظروف التي تمر بها السلطنة وحاجة المواطن الذي تضررت أملاكه إلى المساعدة والمتابعة والزيارة الاستطلاعية لتقييم أسباب ما حدث ومعالجة الأخطاء وحماية المساكن وأملاك المواطنين من الفيضانات وبما يتفق مع مسئولياتهم. ومن الصور المشرفة التي تقدمها أيام الخصب وجريان الأودية، المساهمات الرائعة التي يقوم بها الشباب المتطوعون الذين يؤدون خدمات رائعة للمجتمع تتمثل في المساهمة في بث التوعية وتنظيم حركة السير والقيام بعمليات الإغاثة وتقديم المساعدات المختلفة لمن تم احتجازهم لساعات في الطرق، والتخفيف من معاناة بعض الأسر المتضررة من جراء سقوط الأمطار الغزيرة وجريان الأودية، والمشاركة في عمليات تنظيف الشوارع والأحياء السكنية من مخلفات الأمطار، وتعهد الأفلاج وتنظيفها وإعادتها إلى حالة الجريان إلى غير ذلك مما يدخل البهجة والسرور إلى النفس والشعور بالفخر والاطمئنان إلى حال المجتمع ومحافظته على قيمه، وما نتمناه ونطمح إليه أن تتسع وتنتشر هذه الصور الجميلة خلال الأمطار أو في الأيام الأخرى العادية وأن نجد المساهمات التطوعية وقد أصبحت واقعا ملموسا في مختلف القرى والولايات تقوم بتعهد الأفلاج والمساجد والمنشآت والمرافق العامة وحمايتها، وتقديم الإسعافات والخدمات للمحتاجين إليها وتطوير العمل التطوعي بشكل عام، وقيام مؤسسات المجتمع المحلي والأندية ورجال الأعمال بدورهم المسئول في هذا الجانب.
في محافظات السلطنة وولاياتها المختلفة تقدم لنا الأمطار صورة دقيقة عن طبيعة الأرض ومكوناتها من جبال وسهل ومجار للأودية والشعاب… ومدى تداخلها مع التوسع العمراني ودرجة اختلافها من مكان لآخر والاطلاع على مزايا وعيوب كل منها من حيث القدرة على امتصاص المياه من عدمه والتي تحكمها صلابة الأرض ورخاوتها، حركة المياه واتجاهاتها، مستوى تدفقها، تصريفها، مواقع تشكل الفيضانات،… وتضعنا الأمطار أمام اختبار حقيقي عن مستوى كفاءة التخطيط والمخططين، ومدى قدرتهم على توظيف الخبرات المتراكمة والمكتسبة من مواسم الأمطار المتساقطة خاصة الكثيفة منها في التعرف على مجاري الأودية الحقيقية، منابعها، مصابها، مستوياتها، حجم كل منها وقدرتها في استيعاب المياه المتدفقة وإعداد الدراسات التخصصية التي من شأنها رفع كفاءة التخطيط للمشاريع المستقبلية ومعالجة الأخطاء الواقعة بالنسبة للمشاريع القائمة أو تلك التي ما زالت في طور التنفيذ ما أمكن ذلك درأ لمخاطر الفيضانات وحرصا على سلامة الناس من الحوادث التي تسببها البرك المائية في الشوارع الرئيسة ومن جرف الأودية في المناطق السكنية الواقعة على مسار الأودية، وحفاظا على مقدرات البلد وإنجازاتها من الأضرار التي تسببها الأمطار الغزيرة خاصة وأن العالم يتعرض في السنوات الأخيرة لكوارث طبيعية لم تكن معهودة، والفيضانات التي تسببها الأمطار الكثيفة أشدها بروزا وأعظمها تأثيرا على الإنسان، والتي يعزى سببها إلى تغير المناخ أو ما يسمى ب (الاحتباس الحراري) وهو ما يضعنا أمام مسئوليات مضاعفة تتطلب أقصى درجات الجاهزية والاحتياط. لقد مرت الأنواء المناخية على بلادنا وعين المواطن ترقب كل مشروع أو طريق أو بناء عملاق تسبب في حجز مسار واد تراجعت مياهه الجارفة لتغرق منزله جالبة له ولأسرته الرعب متسائلا ما هو الحل ؟ ويده على قلبه وجلا من سحابة مزن يرقب سيرها المتأني في السماء بدلا من أن تصبح محل ترحيب وبشارة، صحيح أن زخم إنشاء الجسور الخرسانية المعلقة في مجاري الأودية وإعادة تخطيط ومسار بعض الطرق التي تأثرت بالأنواء المناخية، طريق العامرات وادي عدي على سبيل المثال، وإقامة عدد من السدود لامتصاص مياه الأودية والحد من جرفها ما هي إلا صور شاهدة على التصحيح ومدى الاستفادة من تجارب الأنواء وحالات عدم الاستقرار التي مرت بها السلطنة وستساعد بدون شك على المعالجة والتخفيف من تأثيرات الأمطار، ولكن ماذا عن المناطق السكنية القائمة على مجاري الأودية الجارفة، أو تلك التي ما زالت تفتقد قنوات الصرف السليمة ؟ وماذا عن البنايات والمشاريع الكبيرة التي ما زالت تقام وتخطط على ضفاف ومجاري الأودية ؟ ماذا عن البرك المائية الضخمة في الطرق الرئيسة والفرعية التي تسبب عشرات الحوادث خلال الأمطار الغزيرة ؟ ومنها طرق حديثة، ماذا عن الأودية الجارفة التي تفيض من السدود فتغلق الطرق وتحاصر الأسواق والحارات والمساكن ؟ ألا تطلب إجراءات حمائية ومعالجات عاجلة ووقفة تأمل ومتابعة.
ما نستخلصه من نتائج ومرئيات لأيام الأمطار والحالات المدارية يتمثل في الآتي:
• أهمية الاستفادة من دروس الأمطار وجريان الأودية في عمليات التخطيط وإجراء التحسينات والمعالجات للمناطق المتضررة وتحويل مجاري الشعاب إلى أماكن أكثر أمنا ومواصلة إنشاء السدود لدرء المخاطر بالنسبة للأودية، فما زالت بعض المناطق والأحياء السكنية عرضة لمياه الشعاب والأودية التي تبحث لها عن مسارات عبر المنازل والأزقة مثيرة خوف ورعب المواطنين، ومع أن العديد من المعالجات تبدوا سهلة للغاية وغير مكلفة، ومع أن تأخر الحلول وتجاهل المخاطر يعد تجاوزا للتعليمات السامية الواضحة، ولأن الصور والمشاهد التي تبث من مواقع الأحداث لا تنسجم البتة مع الصورة المشرقة والمشرفة لإنجازات السلطنة وعمليات التخطيط وتلحق الضرر من حيث لا ندري فإنه من الأهمية العمل بسرعة عالية لمعالجة أوضاع بعض الأحياء السكنية.
• أهمية العمل على إعداد برنامج استكشافي يوثق لأودية وجبال ومناطق عمان: مواقعها، فروعها، مساراتها، مصابها، فيضاناتها التاريخية وإعداد الدراسات ووضع الخيارات والوسائل الحديثة لمنع أو الحد من فيضاناتها وأضرارها أيام الأمطار الغزيرة والحالات المدارية.
• تشجيع ودعم وتنظيم العمل التطوعي من خلال: برامج التوعية، تكريم المواطنين الذين يقومون بأدوار ملموسة ومقدرة في هذا المجال، تصميم وإعداد برامج تدريبية لمختلف العمل التطوعي، إنشاء هيئة أو جهة تعمل تحت مظلتها الأعمال التطوعية.
• إنشاء المزيد من سدود التغذية للاستفادة القصوى من المياه في مواسم الخصب وسقوط الأمطار، وتوظيفها في زيادة مناسيب الأفلاج والآبار وتطوير واستثمار القطاع الزراعي بشكل عام.
• تشجيع الشباب للعمل في خدمة وإحياء الأفلاج التي توقفت عن الجريان خلال فترات الجفاف، والإقدام على زراعة الأراضي البوار وإعادة الحياة وإعمار الواحات والبساتين والحقول التي أصابها الجفاف.
• إجراء الدراسات والبحوث ذات الشأن بالتغيرات المناخية على منطقتنا خاصة، ودراسة طبيعة الأرض العمانية وكيفية أخذ الاحتياطات المناسبة لتجنيب محافظة مسقط والباطنة بالأخص أضرار الأمطار في قادم الأيام. لكثافتهما السكانية وانخفاض الأراضي ولأنهما تشكلان مصابا لأودية كبيرة.
• تطوير أجهزة ومحطات الرصد الجوي ومراكز التنبؤات والإنذار المبكر، ومدها بمختلف الوسائل والتقنيات والقارئات الحديثة وتأهيل وتدريب الخبرات العاملة في هذا المجال.
أدام الله علينا هذه النعمة، وأفاض على عمان وأهلها بالخير الوفير والنعم المتتالية، وبالخصب العام والأمطار المتواصلة. وكلمة شكر وتقدير لكل تلك الاسهامات والجهود التي بذلت من قبل المؤسسات المتخصصة ومسئوليها، والمتطوعين الذين قاموا بالتحفيف من آثار وأضرار الأمطار وبذلوا جهودا مضنية من أجل أن تجري الحياة طبيعية مع الأمطار والأودية وتقديم صورة مشرفة ومطمئنة عن المجتمع العماني.