شدَّني النِّقاش مع أحد العلماء الأجلَّاء حَوْلَ أيّهما يسبق الآخر في الاهتمام هل العمليَّة التعليميَّة أم الصحيَّة، أم الأمنيَّة، لتحقيق التنمية الاقتصاديَّة؟ وبعد دخولنا في خضمِّ الحديث تذكَّرت مقالًا تكلَّمت فيه عن التعليم منذ سنوات عدَّة فقلتُ حينها إنَّ أهمِّية التعليم والتعلُّم تُعدُّ أقوى مصادر القوى لدى أي دولة متقدِّمة في العالَم ممَّا يؤشِّر ـ بطبيعة الحال ـ على أنَّ هذه الدولة التي جعلت التعليم أوَّل اهتماماتها تكُونُ متقدِّمة في كُلِّ شيء، وأنَّ معدَّل التنمية لدَيْها يزداد كُلَّما كانت في تصنيف متقدِّم من حيث الصدارة للدوَل المهتمَّة بالتعليم، كما يُعدُّ أحد أفضل العوامل التي تساعد على النهوض بالأُمم، وهو أكبر سلاح يُمكِنك من خلاله تغيير العالَم. ويتمُّ التصنيف لأفضل دوَل العالَم في التعليم عن طريق جودة التعليم وعدد الطلاب والمِنح الدراسيَّة والبعثات الخارجيَّة، والمجالات التي يتمُّ تناولها في الدروس. ولأنَّ الثروة البَشَريَّة ثروة لا تنضب وتزداد معدَّلات نُموِّها كُلَّما زاد الاهتمام بالتعليم والصحَّة، ممَّا يبرهن أنَّ الاستثمار في التعليم هو الضمانة الأكبر لرفعة الأُمم، شريطة أن تكُونَ هناك خطط تهتمُّ بتقديم التجارب والخبرة المصحوبة بالرعاية للمواهب المتميزة، وهي تتولد عَنْها العديد من الفوائد، فضلًا عن التقدُّم ورفع مستوى التنمية في الدوَل، فهي حائط صدٍّ قوي لمحاربة الإرهاب وتجفيف أي منابع تؤدِّي إلى نشأة أي أرضيَّة له، ممَّا يعني أنَّه ترياق الحياة السَّعيدة، الفاعلة في عمليَّة التنمية؛ ذلك أنَّ العنصر البَشَري يعدُّ التعليم الأداة الفعَّالة والمؤثِّرة، وهو الوسيلة والغاية في حركة التقدُّم والتنمية، ويقاس تقدُّم المُجتمعات ليس بما لدَيْها من موارد أو ثروات طبيعيَّة فحسب، بل بمستواها المعرفي. ويأتي الاهتمام بالتعليم تحت بند الاهتمام بالتنمية البَشَريَّة، وهي أيضًا ركيزة الأُمم للتقدُّم، والتعليم هو إكسير هذه التنمية ومحرِّكها، وتفتخر المُجتمعات بنوابغها العلميَّة. وتشير تقارير منظَّمة الأُمم المُتَّحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) إلى أنَّ هناك علاقة مهمَّة وإيجابيَّة بَيْنَ الاستثمار في التعليم والنُّمو الاقتصادي في جميع دوَل العالَم، وسيظلُّ التعليم والبحث العلمي نهر التنمية والنهضة لأيِّ أُمَّة، فالتعليم يُمثِّل بداية أيِّ حضارة ومتنفَّسًا لاستكمال النهضة لكثير من البلدان، واختيار الاستثمار في التعليم ضرورة وليس خيارًا في الأُمم المتقدِّمة، فالعنصر البَشَري يحتاج لاستثمار كوادره بالتعليم المستنير الذي يضيء العقول، ويشحذ الهِمم، ويوجد مخترعات، ويكشف أسرار الطبيعة والبيئة والكائنات، وصولًا للفلك والكَون والمجرَّات. إذا نظرنا إلى البلدان الأكثر جودة في التعليم مِثل سويسرا وفنلندا واليابان نجد مخصَّصات ميزانيَّات التعليم كبيرة، وأنَّها استنفرت القدرات التنمويَّة عن طريق الاستثمار في العنصر البَشَري وتأهيله تعليميًّا وفكريًّا. ولأنَّ الشرق ممثَّلًا في علمائه مِثل «الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن النفيس، يعقوب بن إسحاق الكندي…إلخ» كان في فترات كثيرة منارة للعِلم والتنمية وأسَّس حضارات أفادت البَشَريَّة لفترات عديدة، وعمل الغرب على نقل تلك الحضارات عن طريق الترجمة تارة والهجرة إلى الشرق، إمَّا بالاستيطان والعمل تارة أو الاستعمار العسكري تارة أخرى، حيث دأب حينئذ المفكرون والعلماء الأجانب على نقل ثقافة وعلوم المشرق، خصوصًا من المنطقة العربيَّة ليضيفوا لها بعد التعلُّم مِنها، ممَّا أثمر عن تلك الحضارات الغربيَّة البارزة في هذا العصر، والتي انتقلت بسرعة الصاروخ لعصر التقنيَّات ورفعت كفاءة الكوادر البَشَريَّة بتأهيلها علميًّا وعمليًّا فأثمرت تكنولوجيا الإلكترونيَّات، وأدَّت للوصول إلى اكتشافات الفضاء والتكنولوجيا العابرة للقارَّات بمعدَّلات الفيمتوثانية. و»الفيمتوثانية» توصَّل إليها عالِم نوبل العربي الراحل أحمد زويل وساعدت على مشاهدة حركة الجزيئات عِند تفاعلها مع بعضها البعض، حيث تُعدُّ «الفيمتو سكند» هي الوحدة الزمنيَّة التي يُمكِن التقاط الصورة الواحدة خلالها، وهي جزء واحد من مليون مليار جزء من الثانية الواحدة، وتُعدُّ النسبة بَيْنَ الثانية والفيمتو ثانية هي النسبة بَيْنَ الثانية و32 مليون سنة..
تشير الدراسات إلى أنَّ سنة إضافيَّة في التعليم تحقِّق نموًّا في الناتج المحلِّي يبلغ 7%، وهذا يتوافق مع تقارير البنك الدولي التي تقرُّ بأنَّ التعليم يحقِّق عائدات أكثر أهمِّية للمُجتمعات الإنسانيَّة، وهو أحد العوامل الرئيسة لتحقيق التنمية المستدامة، وللاستفادة من التعليم يجِبُ أن تتوافرَ العديد من العوامل التي تستطيع أن تُحقِّقَ طموح التنمية جرَّاء التعلُّم، أهمها الموارد الماليَّة، والاستجابة إلى احتياجات المتعلمين، واحتياجات التنمية من مناخ ملائم وأجهزة علميَّة ومعامل حديثة، مع توافر عناصر الخبرة للمتعلم وإتاحة المجال لكُلِّ موهبة لصقلها تعليميًّا مع استلهام التجارب الناجحة وتطبيقها.
جودة مرسي
godamorsi4@yahoo.com
من أسرة تحرير «الوطن »
المصدر: اخبار جريدة الوطن