د. سعدون بن حسين الحمداني:
الحضارة في اللغة هي الإقامة والسَّكن في الحضر. وتُعرَّف الحضارة على أنَّها إنجازات الإنسان عبر الزمن، سواء كانت إنجازات مادية أو فكرية، وقد عُرفت الحضارة أيضًا على أنَّها نمط من أنماط الحياة المستقرة، بداية الحضارة الإسلاميَّة كانت منذ عهد النُّبوَّة (1 ـ 11هـ) بدأ اهتمام المسلمين بالمدارس في عصر النبوة، إذ جعل رسولنا الكريم المسجد مكانًا للتعلم العبادة، وحيثما يُؤسس مسجد يبدأ فيه التعليم.
استمرَّت الحضارة الإسلاميَّة في تطوُّرها وازدهارها في عهد الخلفاء الرَّاشدين (11 ـ 40هـ)، والدولة الأموية والعباسية حيث آثار واضحةٌ في تطور وازدهار الحضارة الإسلاميَّة وتوسُّعها في مختلف بقاع العالم.
انتشرت منجزات الحضارة الإسلاميَّة في مختلف المجالات ومنها: مجال الفلك، الطب، الرياضيات، العمارة، القانون والتشريع.. وبقية المجالات الأخرى، وخصوصا فن وعلم الدبلوماسية والتي اعتمدت كثيرًا على القرآن الكريم وحياة رسولنا الأعظم في أغلب البلدان والدول.
تتسابق مختلف المدارس الدبلوماسية والمختصة في فنون علم الدبلوماسية على مدى الزمن على وضع أساسيات ومفاهيم هذا العلم، فإننا نجد بأن تاريخ الدبلوماسية يبدأ من القرن السابع عشر أو السادس عشر ومن الغرب حصرًا وبأصول ومفاهيم بسيطة بفن الدبلوماسية وأقسامه من البروتوكول والإتيكيت والإعلام الدبلوماسي والمفاوضات وكل ما يتعلق بهذا العلم، إلا أن الحقيقة بأن الحضارة الإسلامية كانت هي الأقدم في ذلك، حيث احتوى القرآن الكريم على أرقى المفاهيم في كل تفاصيل الحياة وعلى مدى الدهر، سواء في الماضي أو المستقبل ومنها فن علم الدبلوماسية بقوله تعالى:(وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) (يس ـ 12)، والمقصود حسب بعض التفسيرات أن الإمام المبين هو القرآن الكريم لاحتوائه وبصورة متكاملة على كل المعلومات الرصينة؛ لكونه منزلا من رب السماوات والأرض.
تعد الحضارة الإسلامية وعلى مدى مراحلها المتعددة شعاعا أنار الطريق لكل البشرية من حيث التعاليم السماوية الراقية في تمدن الحياة وانتقالها من العصور الجاهلية السوداء في كل شيء إلى قمة الحياة المبنية على العدل والمساواة والمحبة والإخاء، والانفتاح على العالم بقلب واسع يشع بالخير وحب الجميع، وعند بزوغ رسالة الإسلام الشريفة على يد خاتم المرسلين سيدنا محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام) الذي بشَّر بمبادئ الدين الحنيف وأرسى دعائم المدنية العصرية في كل شيء، ومنها فنون الدبلوماسية، حيث كان إرسال المبعوثين لكل أرجاء المعمورة واعتماد الختم الشريف وفن التفاوض في صلح الحديبية؛ كانت هذه بوادر إرساء علم الدبلوماسية في إنشاء الدولة الحديثة المبنية على أسس مقوِّمات العلاقات العامة والقيادة في إدارة الدولة.
ويعد الرسول الكريم مدرسة لأصحابه وأهله في تعليم فنون الدبلوماسية بكل مراحلها، وكان جبرائيل (عليه السلام) وبأمر من رب العزة يردف الرسول بالآيات الكريمة من القرآن الكريم لغرض تدريسها وتعليمها لجميع شرائح المجتمع الإسلامي الذي كان سابقًا يصول ويجول في الجاهلية السوداء بعيدًا عن كل معاني العدالة السماوية وآداب وإتيكيت الحياة اليومية.
ولقد كان سيدنا الرسول الأعظم هو القدوة لنا في فن الدبلوماسية في تعامله مع عائلته وأصحابه وعامة الناس، وفي قوله تعالى:(هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. إلى آخر الآية) (الجمعة ـ 2)، وتطرق القرآن الكريم إلى عدة أبواب وفصول ومنها: الأزمات، المفاوضات، واستقبال الضيوف وآداب الزيارات الاجتماعية بين الأصدقاء والأقارب والقيمة العظيمة للمرأة عند الإسلام وكيف اهتم بها، وكما ورد بالحديث النبوي الشريف وروى الترمذي (1162) وصححه:(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ).
وكذلك تطرقت الحضارة الإسلامية إلى العلاقات العامة والإعلام والمصداقية في نقل وسرعة الخبر قال تعالى:(قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي..) (النمل ـ 40)، وفن كتابة الأخبار ولباقة اللسان واختيار الكلمة والعبارات المتزنة والهادفة.. وغيرها، قال تعالى:(وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) (القصص ـ 34)، وكذلك من الفنون والعلوم والتي سوف نتكلم ونخوض فيها لاحقًا وبصورة تفصيلية في هذه المواضيع.
كذلك تطرقت إلى مواضيع عديدة منها إرسال المبعوثين والختم النبوي الشريف، وأن سيدنا الرسول هو أول من استعمل الختم في الرسائل، وكان الختم ـ آنذاك ـ (محمد رسول الله) ليضيف الخصوصية والسرية بذلك، وحثَّ القرآن الكريم على العلم والاجتهاد بأفضل ما يمكن، قال الله تعالى في محكم كتابه أيضًا، مرغّبًا في العلم وحاثًّا على طلبه:(يرْفعِ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنكمْ والذينَ أوتوا العلْمَ دَرجات) (المجادلة ـ 11).
والرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) خاتم الأنبياء والرسل هو أول من أرسى القواعد في الإتيكيت والبروتوكول ومنها اختيار ألوان الملابس وأنواعها وطبيعتها وفن الدبلوماسية والتواضع في المقابلات واحترام العدو في السلم والحرب في شتى أرجاء المعمورة، حيث أرسل من يمثِّله يحملون رسائل المحبة والسلام لكل قادة وملوك العالم من مختلف الأجناس والديانات.
وسوف نتطرق إلى فصول القيادة والبروتوكول والإتيكيت والدبلوماسية في الحضارة الإسلامية وأنها مهدٌ لهذه الأسس والعلوم.. في المقالات القادمة إن شاء الله.
المصدر: اخبار جريدة الوطن