احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / مقالات متفرقه / الدُّروبي.. قيمة ومنهج وقدوة

الدُّروبي.. قيمة ومنهج وقدوة

علي عقلة عرسان

الدكتور سامي مصباح الدروبي (27 نيسان 1921-12 شباط 1976) من مواليد حمص، أستعيد ذكراه، وأستعيد قدرته على العمل، فقد ترجم في الفلسفة وعلم النفس والعلوم السياسية ستة مؤلفات، وشارك آخرين في ترجمة سبعة مؤلفات أخرى، وفي الأدب ترجم ٢١ كتابًا وشارك في ترجمة كتُب أخرى، وألف ثلاثة كتب وشارك آخرين في تأليف ثلاثة كتب أخرى. كان يترجم عن الفرنسية، وعنها ترجم الأعمال الكاملة لدستويفسكي وتولستوي، وأعمالًا أخرى لشعراء روس منهم بوشكين وليرمنتوف. وقد أخذ عليه بعض المترجمين مآخذ في بعض ترجماته، لكنهم أجمعوا على قدرته الفائقة على تقديم النص المترجَم بلغة رائعة وبأسلوب ممتع يجعلها كأنها بنت اللغة العربية من دون خروج يذكر عن النص. ويكاد يُجمع المترجمون على أن الترجمة عن لغة وسيطة لا تخلو من مآخذ، وحتى الكثير من الترجمات عن اللغة الأصلية تقع فيها هفوات. ويعجب المرء لهذا النشاط المتميز، لشخص عاش خمسة وخمسين عامًا، وأنجز هذا الكم من الإنتاج المتميز، إضافة إلى أعباء عمله الوظيفي والدبلوماسي والوزاري، فقد كان الدروبي وزيرًا للتربية لدورة وزارية، وأستاذًا جامعيًّا، وسفيرًا لسوريا في كل من يوغسلافيا، ومصر، وإسبانيا، ومندوبًا لها في جامعة الدول العربية.
كنت وما زلت أشعر بأننا لم نعطِ هذا الرجل حقه.. وبعد وفاته، وفي مؤتمر اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا، “طشقند” ١٩٧٨”، وفقني الله إلى ترشيحه لنيل جائزة لوتس في مجال الترجمة والدفاع عن ذلك الترشيح، وقد أُعطيت الجائزة له بعد وفاته، وكان في ذلك سابقة طيبة.. وقد كلفت الأمانة العامة للاتحاد، عددًا من الأشخاص، كنت بينهم، بزيارة أهله بدمشق وتسليمهم الجائزة. والحمد لله على ذلك.
من آن لآخر أجدد بحاجة إلى القول دعونا نرفع هذا الرجل قدوة في الصبر والإنتاج، ونقدر جهوده ونفرح بخلود ذكره، ونستفيد من اليقين الذي يشع من روحه ويجسد القناعات التي وصل إليها من خلال المعاناة وتحمل تكاليف الحياة وصبره على ما عاشه فيها، واستفادته مما اطلع عليه من إنتاج مفكرين ومبدعين من أبناء الحياة الداعين إلى احترامها وإغنائها بكل نافع وجميل.. وأن نعمل على متابعة رسالته وهو ومن هم على شاكلته من المبدعين المنتمين لأمتهم، لا من المدعين والمتطفلين على موائد الثقافة والإبداع.. أن نعمل على تحقيق تفاعل خلاق بين آداب الشعوب وثقافاتها، وعلى تعميق دور الفكر والأدب في الحياة الاجتماعية، وعلى إنجاز الأهداف الوطنية والقومية البناءة التي نذر الكثيرون من أبناء أمتنا حياتهم لها، ومنهم سامي الدروبي.. ولتكن مناسبات نقيم فيها حلقات البحث ونقدم الدراسات والمؤلفات التي تنصف هذا الرعيل من أبناء الأمة، ونستفيد من مناهجهم في الحياة والعمل، ونستكمل ما بدأوه من أعمال، ونتابع ما طرحوه من مشاريع.. فيعيش المنتج المبدع بيننا متمتعًا بالاحترام والقيمة والقدرة على الريادة.. ويذكره الذاكرون بما يستحق ليبنوا على مدماكه مِدماكانًا في عصر يُنسى فيه ذكر من يستحقون الذكر، وتطفو فيه طفاوات على السطح الاجتماعي والثقافي والسياسي وتلمع لمع البرق الخُلَّب، نتيجة غياب المعيار وغَلَبَة الإتجار بكل شيء.
لا أدعي أنني أعرَف بالدكتور سامي الدروبي من أصدقائه الخلَّص ورفاق دربه، فلم يكن لي شرف صحبته زمنًا طويلًا… وإن كنت قد حظيت بعدد من اللقاءات معه، وبمعرفة شخصية قرّبته من نفسي، وقد وضعتنا على بداية طريق التعاون لإنجاز عمل مشترَك للمسرح القومي في سوريا، يؤخَذ عن رواية “قرية ستيبا نشيفوكو وسكانها” لدستويفسكي، وحال الموت دون إنجاز ما قررنا إنجازه. وخلال تلك اللقاءات القليلة التي تمت بيننا، هالني ما يحمل من أعباء، وأدهشتني قدرته على الاحتمال والكتمان، وخُيِّل إليَّ في مرات عديدة، وأنا أراه يتحرك.. أنني أرى جبلًا يتوكأ على عصا من صخر، ويحمل مهابة التاريخ، وغزارة المعرفة، وخلاصة التجربة القاسية. لقد كان إيمانه، وتفاؤله، وهدوؤه، وتواضعه، وثقته بنفسه من العوامل التي مكَّنته من التحمُّل والمتابعة والإنجاز، ومكَّنته من المثابرة على تحدي الألم بالعمل بل بإجهادها في العمل.. وإخالُ أنَّ العمل كان لديه واحة في صحراء مُرْمِضَة، واحة يجد فيها الهدوء والعزاء، الراحةَ والبقاء، ويتغلب بإنتاجه وإنجازاته على الألم والسر الدفين في روحه وعلى مرارات الواقع، وتقلب الظروف، وأمور كثيرة من أمور الناس، وعلى قحط الأنفس، وعلى الغربة في الزمان والمكان.. وللغربة ألف سبب وشكل ولون، مما قد يعرفه أو لا يعرفه مغتربون ينعمون في المغترَبات بخير ما تجود به الحياة والسواعد التي تنتج وتبني وتجوع وتجود بالدم لصالح الوطن والأمة. ومن قيمة العمل كان سامي الدروبي يدَّخِر لأبناء أمته زادًا ثقافيًّا، وإبداعًا خالدًا، يحتاجون إليه تحصيل المعرفة والتعرف على إبداع الشعوب وفي إنجاز أهدافهم القومية والإنسانية التي طالما ضحت أجيال في سبيل إنجازها بصمت وكبرياء، وتقديم الخدمات الجُلَّى من دون صراخ أو ادعاء أو تلميع.
ولا أدري لماذا يخطر لي، كلما أردت معرفة المزيد عن الدروبي، أن أقرأ دستويفسكي لأبحث عنده عنه مع معرفتي بالفوارق الشخصية بين العبقريتين، وباختلاف الظروف والبيئة والمحيط العام، وربما في الأهداف.. هل ذلك لأن ترجمة الدروبي لأعمال دستويفسكي الكاملة ربطت بينهما؟! أم لأن الدوربي جسد عبقرية دستويفسكي في اللغة العربية بشكل خلاق جعل من ترابطهما في ذهن العربي حقيقة واقعة؟! أم لأن ذاك العربي، كان يفهم الروسي فهمًا متفوقًا على فهم قومه له، وكان مفتاح مغاليقه فخيِّل لي أن فهم ذاك العربي يأتي من فهم الروسي دستويفسكي أو نظيره تولستوي فهمًا دقيقًا.. إذ جَالا في عالم النفس البشرية، الدروبي في الاختصاص بعلم النفس والفلسفة، والثاني في الغوص في مكنونات النفس بالتجربة الحياتية والمعاناة الذاتية والإبداع في مقاربة ذلك وسبر أغوار الإنسان؟! ربما كان ذلك كله من الأسباب والصلات والعوامل ويبقى هذا، بنظري، أنموذجًا ورمزًا لما هو إنساني عام، يقارب بين بني البشر، على الرغم من تباعد البلدان، واختلاف الأزمان، وتعدد الألسن والتجارب والمشارب.. ويعزز هذا كله الحرص الذي كان يبديه المرحوم الدروبي على التراث الإنساني الكبير في الأدب الروسي خاصة وفي كل ما قام بترجمته من نصوص بصورة عامة.
ولن أنسى المعاناة الذاتية في موقفه من دار التقدم في موسكو ومما تُصدره من ترجمات هي بنظره مشوِّهة للأدب الروسي.. يوم قابله مندوب من اتحاد الكتاب السوفييت يحمل إليه دعوة لزيارة موسكو، وقد كان الفقيد في آنذاك في شدة والمرض لا يرحمه.. وربما سمع بانتقاد من انتقده باسم تلك الدار أو من خلال تعامله معها.. فأحسست بشبابه ينتفض وبأن عزمًا ينبجس منه بقوة وعنفوان، وهو يشتد في تعنيف القائمين على تلك الدار، لأنهم “يشوهون تراثًا إنسانيًّا رفيعًا، لا يعرفون قيمته”. وكان في ذهنه يومها خطة لترجمة الأدب الروسي عامة إلى اللغة العربية، ترجمةً تقوم على أسس مدروسة ومنهجية مرعية الاعتبار، وعلمٍ باللغة، واختيارٍ للأسلوب الملائم، وحرصٍ على روح النص، إن صح مني التعبير عن روح للنص. ومن يعرف صفاء سامي الدروبي وأصالة حسِّه القومي ونضالَه من أجل أمته العربية، وتعلقه بالأدب والقيم، ثم يضيف إلى ذلك عمق الرجل ورهافة حسه الإنساني وشمول ذلك الحس.. يعرف أي رجل بين الرجال كان الفقيد الغالي، رحمه الله.
في سنواته الأخيرة، كان يعمل على ترجمة الأعمال الكاملة لتولستوي، ويخوض معركة التحدي مع المرض العُضال، ويدفع عنه الاستسلام للمرض بالتشبث بالعمل وبتأكيد الوجود الفعَّال في الحياة، كحق خلود وبقاء يتحديان الفناء، وقدرة على البذل بلا ضفاف. في تلك الأوقات كان يحمل أعباء منصبه كسفير لوطنه وكعميد لسفراء الوطن العربي في إسبانيا، ويتخذ مواقف تجسد البطولة والتضحية التي لمقاتلي حرب رمضان/ أكتوبر ١٩٧٣، وكان يستر، ببراعة وفِطنة، مواقف الضعف أو سوء التصرف وقلة الخبرة العربية، وألوان الشِّقاق أو التَّشقق في الصف العربي، لكي يحافظ على موقف عربي موحد شامخ أمام الأعداء والأصدقاء، موقف يوضح الحق العربي ويدعمه ويدافع عنه بالمعرفة والحجة والمنطق، وبالثبات على المبدأ والتطلع إلى المستقبل بأمل.. وقد علَّمنا عندها، بصَمْته ومثابرته وإنجازاته وسلوكه، “أن العمل هو الحياة، وأن قيمة العمل هي الباقية، وأن الإنسان الذي يعرف قدر نفسه، وقيمة الآخرين وقيمة الحياة وما فيها من تعدد الأحوال والألوان هو الذي يحترم العمل ويرفع قيمته، ويؤديه على خير وجه، ويربطه بأهداف وطنية وقومية وإنسانية سامية.. ويربط رقيَّه وتقدمه برقي عمَله وحسن إنجازه، كمًّا ونوعًا، على أكمل وجه مستطاع”.. وكأنه بذلك يجسد قول المصطفى عليه الصلاة والسلام “إن الله يحب إذا عمل أحدُكم عملًا أن يتقنه”.
نحن نعرف أن اهتمامات الفقيد غنية ومتنوعة، وأن أعماله كثيرة، ولسنا الآن بصدد حصرها أو تقويمها، ولكننا نظن أن أبرز إنجازاته هي ترجماته الفذة لدستويفسكي وتولستوي، وأن ترجمته لم تكن جهدًا عاديًّا من ذلك الذي يبذل كل يوم بل هي من ذلك الجهد الإبداعي المتفوق الذي يؤهل صاحبه لأن يكون ذا منهج وأسلوب ورؤية وقدرات لغوية وأسلوبية خاصة. ولذلك فإن هذا الجانب من جوانب شخصية الدكتور الدروبي، يساعدنا ـ إذا ما رفعنا منهجه منهجًا ورفعناه قدوة ـ على أن تكون لنا مدرسة في الترجمة الأدبية أو في ترجمة الإنتاج الفكري العالمي إلى العربية، مدرسة تذهب في الإجادة والدقة والإبداع أكثر، وتغنينا عن ترجمات كثيرة ومتعددة وأحيانًا مكررة للعمل ذاته ومشكوك فيها. وحبذا لو تقوم الجهات المعنية بإحداث مدرسة خاصة باسم مدرسة سامي الدروبي لترجمة الأدب العالمي، حيث تقدم لنا مبدعين يقتدون به ويتفوقون إن أمكن، وأعمالًا على شاكلة ما أنجزه من أعمال.. ونرى أن في هذا تكريمًا حقيقيًّا للدروبي من جهة، واستفادة عملية وعلمية من منهجه وجهده من جهة أخرى، وإثراء لثقافتنا وحضارتنا ولغتنا العربية، وصيانة لفهم ونقل للتراث الإنساني الذي نغتني بالإطلاع عليه، من كل ما يخل به، كما نرى أن في ذلك بعض الوقاية لأجيال أمتنا من عبث العابثين واتّجار المتاجرين.
إن ظاهرة التكريم بالاتباع والإبداع، هذه التي ندعو إليها، ظاهرة صحية، تغرس الأمل في الأنفس وتبعث النور في القلب وتفتح الطريق أمام المواهب الخلاقة.. ويجدر بنا أن نقدرها التقدير كله وندعو إلى مزيد من نوعها. وحبذا لو تقوم الجهات المعنية بالترجمة إلى العربية ومنها، أكثر من غيرها من الجهات بالإعلان عن جائزة باسم الدروبي على مستوى الوطن العربي، فوق الجوائز التي تمنحها دول ومؤسسات عربية، تُعطي لكبار المترجمين ممن أغنوا الثقافة العربية عامة والأدب العربي خاصة بترجمة إنتاج متميز من آداب الشعوب وثقافاتها.. ولن يكون ذلك تكريمًا للدروبي فحسب بل استفادة من تجربة شخص هو قدوة في أمته.. وفي ذلك أيضًا تحريض لآخرين من أبناء هذه الأمة على اتباع مسلك قويم وحازم وصارم في العمل والتدقيق والإنتاج، وتقديم خدمات لأمتهم هي في أمس الحاجة إليها.
إن الدروبي قدوة صالحة والاستفادة من هذه القدوة، بالوسائل المختلفة، يعلي شأن القدوة والمقتدي بها، ويعلي شأن القيم التي اهتزت في مجتمعنا، ويعيد إلى حياتنا العامة شيئًا من الاحترام والاهتمام والتقدير، وإلى الإنسان الذي يضحي في مجتمنا، شيئًا من القيمة، ويعطيه بعض التشجيع، لا سيما ونحن نشهد ما لا يسر في هذا المجال.
إن الكثيرين منا يرون أن مكان الدروبي سيبقى شاغرًا وأنه شخص لا يعوض… ولكن الموت حق، يجري حكمه عليه وعلى سواه من الأحياء.. ومن الأهمية بمكان أن يجد أبناء الحياة استمرارًا غير قابل للفَناء فيما يخص الإبداع والأداء بمنهجية واقتدار، يخلد النُّهج رغم زوال الأشخاص، ويفيد بنوع من البقاء ننتصر به على الفناء. وقد يكون للدروبي، رحمه الله، شيء من ذلك بتخليد منهجه في العمل والإنجاز والإنتاج. ولذلك نرى أن نلتمس لأنفسنا ولأمتنا بعض العزاء، في الاقتداء به، بصلابته، ونقائه القومي، ونفاذ بصيرته، فندرس منهجه في الإنتاج ونرفعه منارًا أمام الأجيال القادمة.
لقد قال الفقيد الدروبي في دستويفسكي قولًا أراه ينطبق عليه هو، وأجده خير ختام لقولي فيه.. قال:
“إن نعشه يسير نحو اللَّحد تحت غابة كثيفة من الرايات، أمراء ورهبان وعمال وضباط ومتسولون، يحيطون بالنعش المهيب عابرين به المدينة. وأمام القبر المفتوح يتناوب الكلام كتاب صالحت بينهم الفجيعة فإذا هم يتحدثون عنه حديثهم عن شهيد… وينفضُّ المشيعون فتعود المقبرة التي يغطيها الثلج إلى الصمت، وتبدأ في تلك اللحظة حياته الجديدة، لا بجسمه على الأرض بل بمؤلفاته الخالدة فوق الزمان وفوق المكان، في قلوب الذين يقرأونه، فيغوص بهم إلى أعماق النفس بل إلى أعماق الوجود”.
تحية لروح الدكتور سامي الدروبي، ونكاد نشعر، من آثاره التي تركها لنا، أنه بيننا بعد أن حُجِبَ جسدُه عنا.
والخالد الباقي على الدهر هو الله سبحانه وتعالى.
المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى