جانب آخر من الجوانب التي يجب توضيحها في السياسة الخارجية العمانية، وهو ما يطلق عليه بسياسة عدم الانحياز، فهذا الخيار هو الآخر لا يقصد به على الإطلاق أن تصبح السلطنة دولة سلبية في قراراتها وخياراتها..
السياسة الخارجية العمانية منذ العام 1970م لم تعزل نفسها مطلقا، كما أنها لم تتبنَّ موقف العزلة مطلقا أو الحياد السلبي عن العالم كما يدعي البعض، حيث بدأ جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ بفك أطواق تلك العزلة السياسية الدولية أو الأحادية التي عاشتها عمان قبل العام 1970م، كما أشار إليها بمفهومها سالف الذكر بالتدرج العقلاني والمخطط له بطريقة متعقلة، والذي لا يقوم على حرق المراحل التاريخية وتجاوزها الزماني أو المكاني، وقد وضح ذلك من خلال رؤيته إلى مستقبل ودور عمان بعد الحركة الوطنية التصحيحية للسياسة الداخلية خلال الفترة من العام 1970م-1971م.
وهو ما يتضح في قوله ـ رحمه الله ـ بتاريخ الـ8 من يوليو1972م “بعد أن يكتمل بناؤنا الداخلي سيكون لعمان دور فعال مع الشقيقات العربيات، أما بالنسبة لمنطقة الخليج وشعبها فنحن جيران وشعبنا شعب واحد، ولن ندخر أي وسع للمساعدة أو المساندة في حدود ما يمكن القيام به من أجل المصلحة العامة، وبالنسبة للدول المحيطة بنا، فنحن نحرص على أن تربطنا علاقة صداقة مع كل من يرغب في صداقتنا… تصورنا لمستقبل بلادنا أن يكون مستقبلا طيبا، فنحن نأمل اذا ساعدتنا الظروف أن نلحق بركب التقدم ونأخذ مكاننا في الصف العربي، وبين الدول الراقية”( 1)
والملاحظ هنا أن الرؤية السلطانية الاستشرافية لمستقبل السياسة الخارجية العمانية وعلاقاتها الدولية خلال تلك الفترة؛ أي فترة الخروج من العزلة أو الأحادية، ستبدأ بتوطيد العلاقات العمانية العربية أولا، ومن ثم ستنتقل إلى مرحلتها السياسية الطبيعية والمنطقية التالية وذلك بتوطيد علاقاتها مع الدول الأجنبية الصديقة والتي اختار أن يسميها الدول الراقية، وبذلك اتسعت دائرة العلاقات العمانية الإقليمية والدولية من خلال المساعي العمانية لانضمام عمان أولا إلى جامعة الدول العربية، ومن ثم إلى هيئة الأمم المتحدة.
جانب آخر من الجوانب التي يجب توضيحها في السياسة الخارجية العمانية، وهو ما يطلق عليه بسياسة عدم الانحياز، فهذا الخيار هو الآخر لا يقصد به على الإطلاق أن تصبح السلطنة دولة سلبية في قراراتها وخياراتها، والتعامل والتعاون والتنسيق مع أصدقائها وحلفائها، أو أن تتموضع بعيدا عن المشاركة السياسية وإبداء الرأي حيال القضايا الإقليمية والدولية، كما هو الحال قبل العام 1970م.
بمعنى آخر، أنها لا تعبر عن رأيها بكل مصداقية وشفافية تجاه تلك المتغيرات والتحولات العابرة للحدود الوطنية، حتى وإن كان ذلك سيتعارض مع مصالح الآخرين، أو أن تقوم بدور إيجابي من وجهة نظرها، حتى وإن كان ذلك كذلك تم النظر إليه من وجهة نظر الأطراف الأخرى بأنه تحيز أو محاباة لطرف على حساب آخر.
وهو ما أكد عليه جلالته ـ طيب الله ثراه ـ صراحة بقوله: “عمان حضرت مؤتمر عدم الانحياز وساهمت فيه، وعمان تحبذ الحياد… ولكن أعيد كلمة قلتها قبل قليل بأن لكل واحد أصدقاء”( 2). وبالتالي فإن المصالح السياسية العليا للبلد كما هو حال جميع الدول هي الموجه الرئيس للسياسة الخارجية العمانية بغض النظر عن نتائج وانعكاسات ذلك.
على ضوء ذلك الوعي بالمتغيرات الجيوسياسية وسرعة التقلبات السياسية وحتمية حساب ومراعاة المصالح الاستراتيجية، نجد أن خيار عدم الانحياز أو الحياد المطلق هو مجرد نظرية أو فكرة سياسية واهمة وحالمة بعيدة كل البعد على الواقع السياسي، حيث إن الحقيقة التي أثبتها التاريخ والواقع أنه لا يوجد حياد بالمفهوم المطلق، فحتى في ظل هذا الخيار تكون الدولة التي اختارته في قمة انحيازها لطرف على حساب آخر، بل إن من الأفضل أن نقول إن سلطنة عمان اختارت ما يطلق عليه بالحياد الإيجابي ( 3) وهو ما أخذ به الفكر السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه.
وقد انتهجت السلطنة هذه السياسة منذ بداية بواكير النهضة المباركة وأكد على الالتزام بها جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ في توجهات ومرئيات السياسة الخارجية العمانية بهدف تحقيق هدفين أساسيين هما: “الأول تأكيد استقلاليتها في اختياراتها ومنهجها في السيطرة على شؤونها ومواردها وعلاقاتها مع دول العالم… والهدف الثاني وراء التزام سلطنة عمان بمبدأ الحياد هو الرغبة في تأكيدها لمواقفها في مواجهة الصعاب والتحديات التي لم يكن أقلها الأعمال التخريبية في جنوبها، الأمر الذي سيسمح لسلطنة عمان بتوسيع دورها خاصة على المستوى الإقليمي، كما أن الحياد سيعطي للمؤسسة السلطانية مركزا دوليا يؤهلها لفرض نفسها كقوة سياسية وحيدة” (4 )
وها نحن اليوم نجد الحضور السياسي العماني الذي يؤكد الدور الفاعل والمؤثر في السياسة الدولية بشكل واضح يشهد له الجميع، بل تؤكد السياسة الخارجية العمانية دورها الذي تجاوز العديد من الدول الكبرى في قضايا العالم عموما والشرق الأوسط خصوصا، وكان لها في تلك القضايا الرأي الفاعل والدور الفاصل والحضور الإيجابي الذي ساهم في صناعة التوازنات الاستراتيجية والسياسية، وحل المشاكل والكثير من الفوضى في السياسات الدولية، كما كان لها المساهمة الواضحة في إطفاء العديد من الحرائق التي لو اشتعلت في المنطقة لكان حالها أسوأ بكثير مما هي عليه اليوم، ومن أبرز الملفات التي كان للسلطنة حضور واضح فيها الملف النووي الإيراني والملف اليمني، هذا بخلاف توسطها لإطلاق سراح العديد من الأشخاص في مختلف مناطق النزاع الساخنة سالفة الذكر وغيرها.
ملاحظة: هذا المقال هو امتداد لمقالات ودراسات منشورة من السابق حول قضايا العزلة والحياد في السياسة الخارجية العمانية، كما أن بعض ما ورد فيه أخذ بتصرف من كتاب لنا تحت عنوان التوجهات الكبرى في بنية النظام العالمي، حيث نحاول بين الحين والآخر مواكبة بعض القضايا والمقالات التي تنشر حول السياسة الخارجية العمانية، وتحاول فيها أقلام كتابها تشويه أو تزوير أو نشر المغالطات حول تقاليد وقيم وتوجهات السياسة الخارجية العمانية.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
azzammohd@hotmail.com
@MSHD999
ـــــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ – صحيفة الجمهورية المصرية, حوار صحفي مع السلطان قابوس أجراه الصحفي المصري ممدوح رضا, 8/يوليو/1972م, ص 9, تم إعادة نشره في الملحق الشهري الذي تصدره جريدة عمان بالتعاون مع مؤسسة السبلة للحلول الرقمية, بتاريخ 23/يوليو/2014م, ص 8-11
2 ـ – جريدة عمان العمانية – أول مؤتمر صحفي للصحافة المحلية مع جلالة السلطان قابوس, بتاريخ 1/يونيو/1974م, س2, ص 1-2
3 ـ – محمد بن سعيد الفطيسي, سلطنة عمان: عزلة أم اعتزال أم حياد إيجابي؟ معهد قرطبة الدولي لبحوث السلام, بتاريخ 1/10/2016م , www.qipri.org/news
4 ـ – قاسم بن محمد الصالحي, الدبلوماسية العمانية وتحديات العولمة, سلطنة عمان/ منشورات دار مسقط للصحافة والنشر والتوزيع أصل الكتاب – رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة “الماجستير” من جامعة محمد الخامس/ المملكة المغربية. ص 28
المصدر: اخبار جريدة الوطن