ما نراه على أرض الواقع مختلف تماما، حيث إن مدارسنا لا تقبل أطفال طيف التوحد بسهولة، والمشكلة حقيقة ليس بالطفل وإنما تكمن بالمجتمع. يجب أن نعي أن المقصود بالدمج هو أن يكون الطفل بالصف العادي، سواء يأخذ باليوم حصة أو حصتين، والأفضل طول اليوم الدراسي وحسب قدراته..
يتساءل العديد من الآباء عما يمكنهم فعله لمساعدة أطفالهم الذين يعانون من اضطراب طيف التوحد في بيئة المدرسة أو الفصل الدراسي الصعبة في مدارسنا العامة العادية اليوم؟ وبكل تأكيد قد يكون هذا الأمر مؤلما لكلا الوالدين، خصوصا عندما يكتشفون أن إدخال طفل مصاب بهكذا اضطراب في أي مدرسة لا يعني بالضرورة تضمينه في كل نشاط مدرسي!
مع ذلك، فبعض الأطفال يمكنهم حقا وينجحون في بيئة شاملة كالمدرسة العادية، إلا أن الإدماج والاندماج ليس دائما الخيار الأفضل. وقد يكون العكس صحيحا أيضا، وها هو أحد أطفال عمان المصابين بطيف التوحد ينادي ويذكرنا متطلعا لفرصة الالتحاق والاندماج مع أقرانه الآخرين السليمين، متوهجا وهو في سنه الصغيرة، وبعد التحاقه مسبقا لفصل دراسي متخصص في أحد مراكز التوحد، أنه قد نضج إلى درجة إحساسه بأن الدمج هو خياره الرائع لمستقبله…
في كثير من الأحيان قد يشعر الوالدان بالإهمال؛ لأن أطفالهما يستبعدون من الالتحاق بالمدرسة العامة العادية والأحداث المدرسية، والتي يتمتع بها الكثير من الأطفال ومن حولهم، خصوصا وأن الاندماج هو أحد تلك الأمور التي يتفق عليها معظم الناس بشكل عام مع مدير مؤسسة تعليمية، ولكن بمجرد أن يصل الأمر إلى العمل الواقعي والمتمثل في تضمين الأطفال المعوقين ـ إن صح لي التعبير ـ يصبحون أقل انفتاحا! ويبقى جليا كيف أن الآباء يحاولون من أجل الحصول على حق أطفالهم (ذوي طيف التوحد) في التعليم والمساواة مع الأطفال الآخرين، ومع ذلك يسأل الكثير من الناس: أين نرسم الخط عندما يتعلق الأمر بالإدماج والأطفال المصابين بالتوحد؟
ما أود الإشارة إليه هو أنه في فصول التعليم الخاص المنفصل أو مراكز التوحد، يمكن أن يكون التركيز الرئيسي فيها على الأشياء خارج التعليم، فالمعايير أقل بكثير من الناحية التعليمية، وغالبا الأطفال لا يدخلون في دائرة التحدي على الإطلاق، علاوة على ذلك، فالعديد من الأطفال مثل هؤلاء يتصرفون جيدا اجتماعيا مع أقرانهم الذين لديهم قدرات مماثلة، لكنهم ـ وبكل أسف ـ يكافحون اجتماعيا مع الأطفال الذين يتطورون عادة. وهنا لعلي مع إدماج الأطفال المصابين بالتوحد؛ لأنه يسمح لهم بالتطور اجتماعيا مع أقرانهم وممارسة مختلف السمات الاجتماعية في بيئة آمنة نسبيا.
وهنا قد لا يشاركني البعض أو قد يختلف معي في هكذا تصور! من المهم حقيقة أن ندرك أن الأطفال السليمين سيستفيدون من وجود أطفال مصابين بالتوحد وأطفال معوقين آخرين في فصولهم. فعندما يقضي هؤلاء الأطفال المزيد من الوقت حول الأطفال مع هكذا اضطراب، فإنهم يكبرون بفهم أكبر وإحساس عالٍ بالتعاطف. ألن يكون الأمر أبسط بكثير إذا نشأت جنبا إلى جنب مع المصابين بالتوحد كجزء طبيعي من حياتك؟ فإذا تم تعليمك منذ السنوات الأولى لالتحاقك بالمدرسة، فإن بعض الناس لديهم أدمغة وأجسام تعمل بشكل مختلف، ويحتاجون إلى أشياء مختلفة لدعمهم.
من ناحية أخرى، يجد الطفل، والذي يقضي يومه في مدرسة خاصة أو فصل دراسي منفصل لمركز ما، صعوبة في تكوين العلاقات اللازمة ليصبحوا أعضاء كاملين ونشطين في مجتمعاتهم. وللأسف مع نموهم لا يتعرف المجتمع عليهم جيدا، أو لا يدرك الناس من حولهم كيفية استيعابهم في المجتمع، بل ولعل المؤلم هو صعوبة إيجاد عمل لهم، قابعين في وضع هامشي بالرغم من أنهم من حالات طيف التوحد الأفضل حالا.
بلا شك، ما نراه على أرض الواقع مختلف تماما، حيث إن مدارسنا لا تقبل أطفال طيف التوحد بسهولة، والمشكلة حقيقة ليس بالطفل وإنما تكمن بالمجتمع. يجب أن نعي أن المقصود بالدمج هو أن يكون الطفل بالصف العادي، سواء يأخذ باليوم حصة أو حصتين، والأفضل طول اليوم الدراسي وحسب قدراته. لا يجوز بطبيعة الحال أن نضع أطفالا في مركز على أساس أنه توحد، مع إعاقة عقلية، أو سمعية أو بصرية وندعي بأن هذا دمج؟! وهذا ليس دمجا إطلاقا؛ لأن الدمج لا يكون إلَّا بمدرسة عادية عامة أو خاصة.
وهذا يقودنا إلى التطرق إلى جوانب أساسية للدمج، وذلك بالنظر إلى طفل التوحد، والمدرسة وآخرها الصف. فطفل التوحد لا يجوز دمجه إذا كان لا يقدر أن يعبر عن نفسه بالكلام، وذلك لأنه سوف يعاني من الاستهزاء أو السخرية خلال صفه الدراسي. من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى حجم جسم الطفل التوحدي على سبيل المثال، هل لنا أن نتخيل طفلا عمره 14 سنة ونقوم بدمجه بالروضة أو بالصف الأول الأساسي؟! كيف ستكون ردة فعل الأطفال الآخرين بالصف؟ بكل تأكيد سيواجه السخرية وسيؤثر عليه. ما أود الإشارة إليه هنا هو أن العمر النمائي أكثر أهمية من العمر الزمني بكل تأكيد، وعليه ينبغي دمج الأطفال من ذوي الاضطراب مع أطفال عاديين أصغر منهم سنا، وذلك تخفيفا للتباين وتقليلا لفروق الخبرات التعليمية، لكن كل هذا من الجيد التخطيط له بعناية. الأصل في الدمج ـ كما تطرقنا آنفا ـ هو أن يستفيد من الأطفال الذين ليست لديهم اضطرابات صحية بالصف العادي، ناهيك أنه يجب أن لا يكون لديه سلوكيات نمطية، كتحريك اليد أو رجليه مثلا، وبالتالي يقوم الأطفال بتجنب اللعب معه.
بكل تأكيد يجب أن يكون الطفل التوحدي بمركز التوحد بين 2-3 سنوات، وأخذ تدريب خاص ورعاية قبل التفكير من قبل الوالدين وإلحاقه بالمدرسة العادية، بحيث يتعلم مهارات اللعب مع أقرانه الأطفال، ومهارات أخرى تؤهله للدخول للمدرسة العادية، وإلا فكيف سندمجه؟
بالنسبة لاختيار المدرسة، فالأمثل يجب أن تكون أعداد الطلاب بصفوفها لا تتجاوز 15 طفلأ، والمعلم يجب أن يكون لديه مهارات التربية الخاصة، وهُيئ بشكل جيد، بحيث يكون مستعدا لتقديم المزيد من الجهد والعطاء. فلا بد أن يكون معلم الصف لديه اتجاهات إيجابية نحو أطفال التوحد لإيجاد طفل مبدع، وبالوقت نفسه لديه معلومات صحيحة عن التوحد، وأنهم قادرون على الإنجاز، وقادرون على العطاء، فبناء علاقة مع أطفال التوحد ليس شيئا يحدث بين عشية وضحاها، فهو يحتاج وقتا وتفانيا وصبرا، وبالتالي تكتشف أن العديد من أطفال التوحد وسلوكهم الصفي أفضل بكثير من أقرانهم غير المصابين بهكذا اضطراب. وهنا يجب النظر إلى أن التنسيق بين مركز التوحد والمدرسة العادية هو ضروري للمعلمين والاستعداد والتهيئة لهم لاستقبال الطفل. كما يجب أن يقوم أحد والدي طفل التوحد مثلا بزيارة المدرسة أو أحد أخصائيي مركز التوحد، ويحضروا الصف أقله ليوم كامل لمعرفة الصف وطلابه، ومن يستطيع من زملائه أن يحفزه بجانب المعلم. وهنا الطفل أقرب ما يحتاج إلى نموذج، ولعله يجد هذه القدوة في الطفل السليم. طبعا من الخطأ بمكان أن يدمج الطفل لساعات طويلة بالمدرسة أو الصف، وإنما يبدأ الدمج من الأيام الأولى بساعة، ثم تدريجيا حتى يصل ليوم دراسي كامل بالمدرسة.
أخيرا، من الأهمية بمكان إدراك أن الإدماج هنا يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، بالنسبة لوالدي طفل يعاني من إعاقة معرفية، قد يعني تعلم أن تقول مرحبا أو هل يمكنني اللعب معك لأقرانه السليمين؟ أما بالنسبة لوالدين آخرين وطفلهما يعاني من إعاقة في التعلم، قد يعني ذلك أن طفلهما سيحصل على تسهيلات للمناهج العامة، وربما يوما ما ستتاح له الفرصة ليدخل الكلية أو الجامعة، بينما بكل تأكيد لبعض أولئك الأطفال. فالإدماج ببساطة يعني أنه سيتعلم التكيف مع التغييرات اليومية العديدة في الفصل الدراسي المزدحم، بل ويطور القدرة على اللعب مع زملائه.
د. يوسف بن علي الملا
طبيب، مبتكر وكاتب طبي
المصدر: اخبار جريدة الوطن