احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / العولمة بعد كورونا

العولمة بعد كورونا

خالد الصالحي:
على الرغم من أن ظاهرة العولمة ليست بظاهرة جديدة بل إن جذورها ربما تعود إلى القرن الثامن عشر، إلا أنه يمكن اعتبار سقوط المعسكر الشيوعي وبالأخص بعد سقوط جدار برلين في أواخر التسعينيات بمثابة الانطلاقة الحقيقية للعولمة الحديثة والذي شكل انعطافا حقيقيا في بنية الاقتصاد العالمي، حيث سعت الولايات المتحده الأميركية وهي الدولة العظمى لإقناع دول العالم للانخراط في اتفاقيات التجارة الدولية، وكانت تهدف بالأساس إلى رفع جميع القيود والعوائق أمام السلع والبضائع الأميركية حتى تستطيع هذه السلع والبضائع اكتساح جميع الأسواق العالمية، بالإضافة إلى ذلك فإن العولمة استطاعت إلى حد بعيد تغيير بنية الاقتصاد العالمي. فعلى سبيل المثال، كانت مصانع السيارات في أميركا وأوروبا تعتمد في سلاسل توريدها (أجزاء السيارات) على مصانع محلية في نفس الإقليم، ولكن ذلك تغير بشكل كبير في ظل العولمة، فقد أصبحت هذه المصانع تعتمد في سلاسل توريدها على مصانع دولية منتشرة في بقاع مختلفة من العالم؛ بمعنى أن السيارة التي نستخدمها اليوم ليست من إنتاج مصنع واحد، بل هي في الحقيقة من إنتاج عدة مصانع ومن بلدان مختلفة (قد يصل العدد في بعض الأحيان إلى 30 دولة) وما ينطبق على صناعة السيارات ينطبق أيضا على معظم الصناعات الأخرى كالطائرات والأجهزة الإلكترونية والكهربائية وغيرها من الصناعات.
بالإضافة إلى ذلك لقد سمحت العولمة بانتقال أسرع لرؤوس الأموال بين الدول وذلك بفضل التقدم التكنولوجي الهائل في مجال الاتصالات والإنترنت، وأخذت الشركات الكبرى تتسابق وتتنافس في تقليل تكلفة الإنتاج، وهنا برزت الصين على الساحة الدولية وذلك لتوافر الأيدي العاملة الرخيصة بها، فقد سعت كبريات الشركات الأميركية والأوروبية لفتح مصانع لها في الصين، وهذا ساعد الصين لتتحول من اقتصاد ريعي قائم على الزراعة إلى اقتصاد تجاري قائم على الصناعة. في الحقيقة لقد كانت الصين بجانب دول أخرى المستفيد الأكبر من نظام العولمة؛ فقد استطاعت أن تخرج من عزلتها التي عانت منها على مدى قرون طويلة لتصبح الدولة المتربعة على اقتصاد العالم، واستحقت عن جدارة لقب (مصنع العالم).
وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة الموجهة للعولمة والتي قد تكون صحيحة في بعض الجوانب، إلا أنه يمكن القول إن العولمة لعبت دورا رئيسيا في تخفيض تكلفة الإنتاج، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في أسعار كثير من السلع والمنتجات لتصبح في متناول اليد ومتاحة لجميع شعوب العالم. أضف إلى ذلك أن العولمة لعبت دورا رئيسيا في انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات بسهولة أكبر إلى الدول الفقيرة، وقد أسهم ذلك في تطوير البنى التحتية والاقتصادية لهذه الدول.
من ناحية أخرى فقد أفرزت العولمة إشكاليات كبرى في الدول المتقدمة، وتمثل ذلك في فقد الكثير من الأفراد لوظائفهم لحساب الوظائف في الصين، ما نجم عنه ارتفاع ملحوظ في نسب البطالة، وتفاقمت المشكلة بصورة أكبر بسبب موجة المهاجرين من البلدان الأكثر فقرا في إفريقيا وآسيا إلى تلك الدول.
وكما أشرت سابقا، يمكن اعتبار أميركا بمثابة الأب الروحي للعولمة الحديثة؛ لأنها كانت وعلى مدى عقود من الزمن من أكبر المنظرين والداعمين لهذه العولمة؛ فقد حرصت بكل ما تملك من وسائل تكنولوجية وإعلامية متقدمة لترسيخ حقيقة أن العولمة هي الخيار الأفضل لجميع دول العالم، كما أنها سعت لتعميم النمط الاقتصادي الأميركي القائم على الإنتاج والاستهلاك المفرط (بمعنى زيادة الاستهلاك من أجل زيادة الإنتاج) في كل دول العالم. وعلى الرغم من ذلك فقد أظهرت التطورات في السنوات الأخيرة، وبالأخص في أميركا وأوروبا أن بريق العولمة بدأ يخفت بشكل كبير، وأنها أصبحت اليوم تعاني من إشكاليات وتحديات جذرية لا يمكن تجاوزها بسهولة، فمع صعود اليمين المتطرف وانتشار ظاهرة الشعبوية في أصقاع مختلفة من العالم تصاعدت دعوات عنصرية تدعو إلى طرد المهاجرين وضرورة حماية الاقتصادات المحلية ضد سياسات العولمة، هذا بدوره يعد انتكاسة حقيقية على شعارات كل العولمة والانفتاح، وأكبر دليل على هذا الواقع ما فعله ترامب عندما رفع شعار (أميركا أولا وقبل كل شيء) وقام بشن حروب تجارية على مختلف الجبهات ولم يستثنِ أحدا من ذلك حتى أقرب حلفائه، كل هذه التطورات المتلاحقة وجهت ضربة قاصمة لكل شعارات العولمة وأدت إلى ضرر جسيم لبنية الاقتصاد العالمي، وظهر ذلك جليا في الحرب التجارية بين أميركا والصين التي أضرت كثيرا بسلاسل التوريد العالمية، وأدت ايضا إلى انخفاض ملحوظ في التبادل التجاري بين الدولتين.
كان هذا المشهد السوداوي كفيلا بإسقاط مشروع العولمة بل يمكن القول ـ دون مبالغة ـ إن ذلك كان كفيلا بانهيار وشيك للاقتصاد العالمي، ثم جاءت أزمة كورونا لتصب الزيت على النار؛ فقد أدت أزمة كورونا إلى شلل تام للاقتصاد العالمي تمثل ذلك في تعطيل كامل للنشاط الصناعي وحركة النقل الجوية وجميع الأنشطة التجارية في كل دول العالم. إن الاقتصاد العالمي لم يشهد أزمة بهذا الحجم وبهذه القوة منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، فهذه الأزمة كشفت بشكل واضح مدى هشاشة الاقتصاد العالمي القائم على العولمة، فقد ظهر بشكل جلي مدى اعتماد العالم على الصين، فبمجرد تعطل النشاط الصناعي في الصين عند بداية الأزمة أدى ذلك إلى توقف سلاسل التوريد للكثير من الصناعات في أميركا وأوروبا مسببا شللا كاملا للكثير من المصانع.
ومما لا شك فيه أن هذه الأزمة ستؤدي إلى تغير جذري في المشهد العالمي وهذا بشهادة الكثير من الباحثين والخبراء، ويمكن تلخيص توقعات الخبراء لنتائج هذه الأزمة في النقاط الآتية:
١-بحسب الخبراء فإن الكثير من الدول المتقدمة ستتجه أكثر فأكثر نحو الاعتماد الذاتي في صناعاتها المختلفة، وسوف تتجنب الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية من دول أخرى لكي تتفادى الوقوع في مشاكل مستقبلية قد تؤدي بها إلى تحمل الكثير من الخسائر وذلك عند حدوث أزمات طارئة في المستقبل البعيد أو القريب. وعلى الرغم من أن ذلك سيحدث تدريجيا، لكن يعني تراجعا كبيرا في مجال الاستثمار الخارجي وتقييدا أكبر لحركة رؤوس الأموال، كما أن الكثير من الدول ستلجأ إلى التخزين والادخار لكثير من السلع الرئيسية والمهمة في مثل هذه الأزمات، ما سيؤدي إلى تنافس محموم بين الدول للحصول على هذه للسلع، وهذا ما تجلى بوضوح خلال الأزمة.
٢-إن الإغلاق التام للكثير من الأنشطة الاقتصادية قد أدى إلى ارتفاع ملحوظ في نسب البطالة، فعلى سبيل المثال فقدت السوق الأميركية ما يقارب من 700 ألف وظيفة خلال شهر مارس فقط لترتفع نسبة البطالة إلى 3.5% خلال نفس الشهر. إن هذا الأمر يعد تحديا حقيقيا للكثير من الدول.
٣- إذا استمرت الأزمة لفترة طويلة فإن الكثير من الدول والشركات الكبرى ستتخلف عن سداد ديونها المستحقة، وهذا يعني أن العالم سيشهد موجة جديدة من الإفلاسات للكثير من البنوك والمؤسسات الدوليةـ وهو شبيه إلى حد كبير لما حدث في الأزمة المالية عام ٢٠٠٨.
٤- إن موجة الإفلاسات والتخلف عن سداد القروض ستؤدي إلى فرض قيود صارمة على حركة الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال، وهذا بدوره سيولد مشاكل اقتصادية عميقة للبلدان التي تعتمد بشكل كبير على الاستثمار الخارجي، كما أن ذلك سيؤدي إلى تراجع ملحوظ في نمو الاقتصاد العالمي.
٥- بالإضافة إلى ذلك فإن عودة الكثير من المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية سيشكل عامل ضغط إضافيا على الكثير من الدول النامية، وقد يؤدي إلى انفجار الاستقرار الداخلي مسببا الكثير من الحروب الأهلية، بل قد يشجع ذلك بعض الدول على شن حروب خارجية للهروب من أزماتها الداخلية المتفاقمة.
٦-كما هو معروف، فإن العولمة أدت إلى تراجع ملحوظ لأهمية ومركزية الدولة القومية في الاقتصاد العالمي وذلك لحساب الشركات العابرة للقارات، ولكن أزمة كورونا أعادت المشهد من جديد لأهمية الدور الذي قد تلعبه الدولة القومية في مواجهة مثل هذه الأزمات؛ فقد اضطلعت الدولة بدور رئيسي في توفير الرعاية الصحية، وفرضت الكثير من القيود والإجراءات التي ساعدت كثيرا في الحد من تبعات هذه الكارثة الصحية، كل ذلك أثبت للعالم أن الدوله القومية ما زالت تلعب دورا مهما ومحوريا على الساحة الدولية، ولكن الخوف من أن يستغل بعض السياسيين الوضع لصالح ترسيخ سطوة الدولة القومية؛ لأن ذلك سيشكل تهديدا حقيقيا لحرية الأفراد، وسيفرض عليهم نوعا من الرقابة القاسية، وهذا يعني تراجعا كبيرا عن مبادئ الديمقراطية التي ترسخت في الغرب على مدى عقود طويلة.
إن كل هذه الإشكاليات المصاحبة لكورونا لا تمثل إلا غيضا من فيض، وهذا بالضرورة يتطلب من جميع الدول الاستعداد الجيد لما بعد كورونا؛ لأن ما بعد كورونا لن يكون بالتأكيد كما كان قبل كورونا. إن الدولة التي تضع خططا طويلة الأمد ومحسوبة بدقة هي التي ستستطيع العبور إلى بر الأمان بأقل الخسائر وتتجنب الانهيار الشامل لمنظومة الدولة.. إننا اليوم نواجه خطرا حقيقيا لا نحيط بكل تبعاته؛ لذلك يجب أن يكون سلوكنا منضبطا إلى أبعد الحدود.
يمكن القول إن مشروع العولمة الذي تشكل حسب مقاييس الشركات العابرة للقارات قد أثبت فشله الذريع في الكثير من الأزمات التي واجهها العالم في السنوات الأخيرة، وقد يكون في طريقة إلى الزوال من غير رجعة. إن الأزمة التي نعيشها الآن تتطلب من الخبراء إعادة النظر في أسس العولمة ووضع أسس جديدة يقوم عليها الاقتصاد العالمي في المستقبل، أسس تسمح لهذا الاقتصاد أن يكون أكثر مرونة وأكثر ديناميكية لمواجهة أي طارئ.

* كاتب عماني


المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى