د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج
مشهد غريب تراءى لنا فجأة بينما كنا نفكر في العدوان الصهيوني الشامل على غزة، ونبحث في صمت الشعوب العربية على ما تراه بأم أعينها مباشرة من مذابح إنسانية يسقط فيها (60%) من الأطفال والنساء وكبار السن من جراء قصف غزة برا وجوا، وهى محاصرة من العرب والصهاينة معا وفي آن واحد، ومن كل الجهات، لماذا هذا الصمت أيتها الشعوب العربية؟ صمت عجيب وغير معتاد، ولابد أن يكون وراءه أسباب علينا استجلاؤها بصوت عال، إذ أن موقفهم غير طبيعي تجاه ما يتعرض له الشعب العربي الفلسطيني في غزة ،، الصامدة ،، والمنتصرة بإذن الله تعالى، لأنهم صناعة الله في تلك الأرض المحتلة، صنعهم الله عز وجل بجينات تسمى بالجهاد، لأنهم شعب النصر القادم بإذن الله، كما أخبرنا به رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفق الحديث الصحيح الذي اشرنا إليه في مقالنا الأسبق.
وهذا السر لا يفهمه – للأسف – الكثيرون من العرب والمسلمين رغم معرفتهم بالحديث النبوي الشريف، لذلك فهم يغرقون في مفهوم الموت الجسدي في حرب غير متكافئة العدة والعتاد، قاسوها بمعاييرهم التي تحركهم جينات الخوف من الموت بل ومن السجن حتى لو من أجل قضية عادلة، لذلك، ضاعت قضاياهم، وضاعت معها أوطانهم.. فما الفرق بين الاحتلاليين … الفرق أن هناك شعبا مقاوما على استعداد فطري لتقديم الأرواح حتى النصر الموعود، وهنا شعب مستسلم، لا ترعبه حتى قول كلمة الحق، فكيف برصاصة تطلق في الهواء، حالة عربية مثيرة جدا، ومستفزة للوعي، ولابد من بحث أسبابها، وهنا نتساءل، هل وراءها الإفراط في القوة الأمنية والعسكرية ضد الشعوب؟ قد نجد هذا السبب واضحا في كبرى دول ما يسمى بالربيع العربي، لن نقلل من هذا السبب في فهم خلفيات الصمت، بل ينبغي أن نعلي من شأنه في فهم أسبابه، فنجاح استخدام القوة المفرطة – جنون القوة – في كسر إرادة الشعوب، قد أمن للأنظمة عدم خروج اي صوت جماعي مساندة للمظلومين، وأي خروج حتى لو كان فرديا، فسوف يجد نفسه بعيدا عن الشمس، إذن، هناك شعب عربي كبير مقهور، مورس ضده طوال السنوات الثلاث الأخيرة كل أنواع الأسلحة المادية والمعنوية لقتل إرادته لترهيبه لكي يبقى خارج نطاق الفعالية والتفاعلية على النطاقين الداخلي والخارجي – ويظل هذا الوضع مسألة وقت فقط – لكن، ماذا عن شعوب الدول الأخرى التي لم تفجر القوة الأمنية والعسكرية بنيتها الاجتماعية والنفسية والأخلاقية على غرار ما أشرنا إليه سابقا؟ الإجابة تحتاج لدراسات اجتماعية معمقة، لكننا اهتدينا في لحظة التفكير السريعة لمشهدنا العربي العجيب والغريب، لرؤية تنفذ لعمق جزء من مشكلة الصمت، وقد وجدناها جديرة بالطرح والإثارة، وهى تتمحور في منظورين أساسيين، الأول، الخوف من إظهار موقف التنديد حتى لا يتم تصنيفهم في قائمة المتعاطفين مع الحركة الإخوانية على اعتبار أن إحدى فصائل المقاومة تنتمي لهذه الحركة، وعلى اعتبار حالة الاستعداد الكبيرة التي أظهرتها بعض الدول العربية ضد الأخوان، وهذا الاستسلام نجده عند النخبة العربية وقاعدتها المثقفة، فالتعاطف قد أصبح جريمة سياسية كبرى لا تقل شأنا عند البعض الأنظمة العربية كالعضو نفسه، وعقوبتهما واحدة، إما الطرد من الوطن أو الطرد من أعمالهم أو سجنهم أو مضايقاتهم .. في بعض الدول العربية وليس كلها لكن، نجاح البعض في استخدام القوة على المنتمين والمتعاطفين قد امتد أي هذا النجاح لبقية الدول بحيث كان له تداعيات نفسية على المثقفين في بقية الدول الأخرى، وصار الخوف سائدا من إبداء أية تعاطف علنية مع غزة، وهذا الخوف نفسي فقط ، والمنظور الثاني، أنه في الوقت الذي كانت تقتل فيه قوات الصهاينة كل جسد فيه فكر إسلامي (حيوي ) في غزة، كانت المسلسلات العربية الرمضانية تدمر في الجسد العربي والخليجي كل فكر حي داخل الجسد، لكي تجعله أي الجسد فاقد قيمة الإدراك والتفاعل مع ذاتيته الوطنية والعربية والإنسانية، بحيث لم يعلم الكثير من العرب عن العدوان ومجازره إلا بعد مرور الوقت، لماذا؟ لأنه منشغل ومشغول بالمسلسلات التي غزت شهر رمضان الحالي بصورة غير مسبوقة تماما ،، شكلا ومضمونا ،، ولما علموا كانت انشغالاتهم مزدوجة، ومتباينة التأثير بالمؤثرين .. وهنا تكمن مفارقة التوقيت التزامني، هل هو مصادفة أم مخطط له ؟ ففي غزة يموت الفكر بموت الجسد، لا خيار ثاني، وقد جربوا عدة خيارات لم تنجح، وفي عواصمنا العربية والخليجية الأخرى، يموت الفكر داخل الجسد، ويظل الجسد حيا مفرغا من الفكر، والنتيجة واحدة رغم تباين الوسيلتين، وكل من يرصد غزو المسلسلات العربية في رمضان الحالي من حيث الكم والمضمون، ويحلل تداعياتها، سوف يتفاجأ بلجوئها الى تقليد المسلسلات التركية في مشاهد الجنس والمخدرات، والنتيجة تدمير القيم في جيل شبابنا ،، خاصة ، ومحو في النفسيات الاجتماعية العامة قيم الإحساس والشعور بالتعاطف والتفاعل ..عبر إطلاق جماح النوازع البشرية، وسيادتها على الكينونة الإنسانية، وقد وظفت كل المسلسلات الرمضانية ،، المرأة ،، لتحقيق تلك الأهداف التكاملية أو التكميلية للحرب الصهيونية الجديدة على غزة، فظهرت المرأة في كل المسلسلات شبه عارية بل تتعاطى الكحول والمخدرات وبائعة هوى من أجل المال … مسلسلات صيغت بعناية فائقة لهدم القيم، وصرفت عليها الأموال الضخمة من أجل استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة لدواعي الإثارة والإبهار من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية .. من وراء هذه المسلسلات ؟ وكيف تسمح قنوات فضائية عربية بعرضها إذا لم يكن من وراءه ذلك القصد؟ الصهاينة يدمرون الأجساد بما فيها من أفكار ومشاعر وعواطف وقيم في غزة، والمسلسلات العربية تدمر القيم والأخلاق في كل بيت عربية لتجعل الأجساد خاوية من أية محتوى مقاوم في تزامن غير مسبوق مع العدوان الثالث والأوسع نطاقا على غزة، هل هو مخطط مرسوم مسبقا؟ من يتابع بطلات هذه المسلسلات، ويعرف دورها في إلغاء الشرعية الإسلامية الجديدة عبر صناديق الانتخابات، سوف لن يتردد في الحكم بان وراءها أيادي صهيونية لأهداف قصيرة وبعيدة المدى.
ومن خلال ما تقدم، يكمن سر العلاقة المشتركة بين الحرب الثالثة على غزة وبين غزو المسلسلات الرمضانية الصاعقة للقيم والحياء، فكل المسلسلات دون استثناء تستهدف الإثارة الجسدية من خلال مشاهد الجنس والمخدرات التي تهدم المنظومة الأخلاقية لمجتمعاتنا العربية، فهل من صحوة عربية إسلامية لمواجهة هذه الحروب، ،الميدانية والفضائية،،؟ فالصمت يدخلنا مع المتواطئين والشامتين والمتآمرين.. لأننا في موقف المتفرج، والخوف كل الخوف من التدخلات (القدرية) عندما تنتقل العدالة من الأرض إلى السماء ..عندها يستوي الكل في النتيجة النهائية .. اللهم أجعل شهر رمضان خاصة عشره الأخيرة شاهدا لنا لا علينا.