كنت صباح يوم الاثنين الثالث والعشرين من ديسمبر أحتسي فنجان قهوة في مقهى (كاريبو)، بالخوير، مستمتعا بقراءة تحفة الروائي إبراهيم الكوني(المجوس)، عندما تواردت علي الاتصالات والرسائل تعلن وتخفي، تؤكد وتنفي، تقول ولا تقول، تقلق وتطمئن، تتساءل وتجيب، لتتحول الإجابة إلى سؤال من جديد، مخاوف ملتبسة، معلومات مستغربة، مواقف لا يمكن ربطها إلا بحدث جلل وقع أو على وشك أن يقع، لحظات مرعبة، دموعي سالت لحظتها لا إراديا، العواطف الضاغطة الجياشة، المشاعر الإنسانية الحساسة غيبت العقل والمنطق، ضاع تفكيري في غياهب جب الفاجعة، في ظلام الفقد المؤلم، كنت في أشد الحاجة ساعتها لصديق أبثه مشاعري، أشاركه همي وفاجعتي، فاجعة العمانيين.
صحيح أننا مؤمنون بالموت وموقنون بأنه نهاية طريق الأحياء، لا نجاة من مخالب المنية المحتم والمحكم، لا خلاص من الحتف لنبي أو إمام أو سلطان أو فقيه، فالجميع سائرون منقادون لجبروته ووحشته. وخفف البيان الصادر عن ديوان البلاط السلطاني في آخر يوم من عام 2019م ـ الذي أعتبر يوما سعيد بهيجا صاحبته احتفالات وأفراحا ـ الذي تضمن طمأنة المجتمع باستقرار الوضع الصحي لسلطان البلاد، من حدة القلق والخوف والتوتر، التي جثمت على العمانيين ورافقتهم طوال السنوات التي وثقت لمرض السلطان. ولم يمضِ أكثر من عشرة أيام حتى عادت الاتصالات والرسائل المقلقة من جديد لتضعنا فجر يوم السبت ـ الحزين ـ الحادي عشر من يناير 2020م، أمام حقيقة الأمر الواقع ـ الصدمة ـ التي أبينا تصديقها، وتجاهلنا حقيقتها، ولكن هل من الموت مهرب؟؟ وهل نملك من أمرنا شيئا أمام الفقد؟؟ ولكننا يا للهول أمام فقد من نوع آخر، غياب ليس ككل الغيابات، ليس من اليسير استيعابه وتجاوزه، حاكم كبير وشخص قدير، امتلك العقول وأسر القلوب، قاد بلاده إلى بر الأمان، عصره عصر تحول شامل أصاب جميع مناحي ومفاصل الحياة بالخير والبركة والنمو والازدهار، ارتبطت عمان عالميا وإقليميا ومحليا بشخصه، (عمان قابوس) جنبها الشرور والحروب والأزمات وحملها على كتفه ليضعها في المكانة العالمية التي تستحقها، وحول ولاء العمانيين من القبيلة والحلف والمذهب إلى الوطن، وهو ما عد أقدس وأنبل منجزات نهضة عمان الحديثة التي أعلى سماكها لتناطح السحاب، ورفع رايتها شامخة شموخ الجبال، منجز علينا اليوم عبء المحافظة عليه والذود عنه والاستماتة لتعميق الوحدة الوطنية، ففيها الأمن والاستقرار ومستقبل الوطن المزدهر والضامن لتجاوز كل التحديات والمعيقات وقيادة عمان إلى شاطئ الأمان، حاكم لم يعرف العمانيون غيره، ألفوه وأحبوه، وارتبطوا به، في أزماتهم ومشاكلهم وهمومهم يرفعون النداء إليه، صوره محفوظة في غرف نومهم ومكاتبهم وسياراتهم، وكلماته في الأعياد الوطنية، وافتتاح أدوار مجلس عمان، وفي برلمان عمان المفتوح في الصحارى والجبال والوديان، ابتداء من (أيها المواطنون الأعزاء…) وخطابه (البشرى)، من ألمانيا، (…التي شاءت الإرادة الإلهية أن تتزامن هذا العام ونحن خارج الوطن العزيز للأسباب التي تعلمونها…)؟ مواقفه العظيمة، قيمه الإنسانية السامية، ابتساماته المضيئة… محفورة في القلوب، فكيف لهم أن يفتحوا عيونهم بدون أن يشاهدوه في المناسبات الوطنية وعند استقبال ضيوف بلاده وإطلالته الدائمة عليهم؟؟؟ هل رحل بطل السلام، وحكيم العرب وملاذهم وقت المحن والكرب؟؟؟ نعم فمثلما رزئ العمانيون بموت شخصيات قيادية عظيمة كمالك بن فهم، مازن بن غضوبة، المهنا بن جيفر، الصلت بن مالك، ناصر بن مرشد، سلطان بن سيف، سعيد بن سلطان… واستطاعوا بالإرادة والعزيمة مواصلة المسيرة، وتسجيل المزيد من الإنجازات وتحقيق المستحيلات، فسوف ينهضون اليوم من النازلة العظمى التي زلزلت قلوبهم وعصفت بعقولهم وكادت تزهق أرواحهم، فليس سهلا ولا يسيرا مصابهم الجلل في أعظم شخصية حكمت عمان على مدار أكثر من ٤٩ عاما، أفاض عليها وعلى شعبها حبه وفكره وإنسانيته، فأخرجهما من ظلام التخلف والضعف والغياب والفقر والجهل والتشرذم والفوضى إلى عالم التقدم والرخاء والحداثة والعصرنة والاستنارة والوحدة الوطنية والأمن والظهور العالمي… ومثلما حفرت تلك الشخصيات سيرتها في قلوب العمانيين وصفحات التاريخ والتي مضى على بعضها أكثر من ألف عام، فسيبقى جلالة السلطان قابوس بن سعيد متربعا على قائمة تلك الشخصيات المهيبة منحوتة سيرته في العقول والقلوب، وأقلام وألسنة تفيض حبا ووفاء وامتنانا واحتراما، وستظل تعليماته وكلماته ورؤاه وحكمته نورا يضيء درب العمانيين لرسم خريطة المستقبل والإضافة على ما حققته من إنجازات في العصر القابوسي المزدهر. صفحة من صفحات عمان التاريخية طويت، وأخرى جديدة فتحت، فالأيام دول، والدورات الزمنية حافلة بالتحولات والتغيرات، مليئة بالعبر والدروس، قادرة على مداواة جروح الفقد وألم الغياب وفواجع الموت وزلزلته، وحياة البشر متجددة طموحاتها وآمالها وتطلعاتها، والشاعر العماني الكبير (أبو مسلم البهلاني) يقول: (العمر يهرم والآمال ولدان). نسأل الله العلي القدير للسلطان قابوس بن سعيد، الرحمة والغفران وأن ينزله منزلة الشهداء الأبرار، وأن يلهم العمانيين الصبر والتحمل على الفقد الأكبر في تاريخهم الحديث. ونتوجه بالدعاء إلى العلي القدير أن يسدد ويوفق سلطان البلاد هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد. لكي يحقق لعمان وشعبها منجزات أخرى متتالية ونجاحات متتابعة تضاف إلى سابقاتها، وأن تكلل مساعيه وخطواته في الإصلاح والتقدم والتعاطي مع الملفات الوطنية ومعالجة إشكالاتها بالتفوق والخير، ليعيش العمانيون مراحل قادمة تتميز بالرخاء والنمو والازدهار والاستقرار، والإسهام في تعزيز وتعميق الوحدة الوطنية وقيم التعايش والتسامح.
المصدر: اخبار جريدة الوطن