مع اعتقال الشُّرطة اليابانيَّة لـهيروكو هاتاجامي، تكُونُ الأرقام التي تسبَّبت بهذا الاعتقال قَدْ دخلت حيِّز الأرقام القياسيَّة بعد أن أجْرَت 2761 مكالمة طوارئ هاتفيَّة كاذبة طلبًا للنَّجدة والمساعدة مستخدِمةً المزيد من وسائل الإقناع بأنَّها في ورَط (جمع ورطة)، وتحتاج إلى حضورهم فورًا لإسعافها.
لقَدْ أجْرَت هاتاجامي مكالمات على مدى سنتين وتسعة أشهر ومن أماكن مختلفة، ولكنَّ الحصَّة الأكبر كانت من منزلها، وعِندما واجهها المُحقِّق بما ارتكبته من أخطاء في إشغال الشُّرطة ببلاغات كاذبة وإدمانها على تلك المكالمات، قالت بدُونِ تردُّد (إنَّها تشعر بالوحدة وتريد أن يستمعَ إليها أحد)، وإذا كان الستار التحقيقي قَدْ أسدل على هذا الحادث بانتظار أن يبتَّ القضاء الياباني بأمْرِها، فإنَّ العديد من اليابانيين قَدْ تطوَّعوا إلى الاتِّصال وفتح حوارات هاتفيَّة معها، بل إنَّ بعضهم أوصى بنقلها إلى أحد المراكز الاجتماعيَّة المأهولة للانضمام إلى أفراد تقطَّعت بهم السُّبل العائليَّة ولجأوا إلى هذه المراكز.
إنَّ محنة الشعور بالوحدة تتصدَّر الآن أخطر الأمراض النَّفْسيَّة، الأمْرُ الذي دفع منظَّمة الصحَّة العالميَّة إلى إصدار تعليمات إلى البَشَر من أجْلِ حماية العافية النَّفْسيَّة بالاتِّكال على الذَّات، وليس بانتظار المساعدة من أحد. المنظَّمة أوصت أيضًا، أن لا يضعَ الإنسان نَفْسَه في حالة فراغ، فهو المموِّل الرئيس للوحدة. ومقابل ذلك، فإنَّ الذين يواظبون على أعمال يوميَّة مهما كانت بساطتها لا يتعرَّضون لمِثل هذا الشعور. من جانب آخر ومن استنتاج ميداني أنَّ البعض مصابون بقطيعة شخصيَّة على مستوى العلاقات الاجتماعيَّة العامَّة، فكيف يكُونُ الحال على مستوى العائلة الواحدة. من متابعة شخصيَّة، ووفق سؤال استباني، كنتُ أطرحه بَيْنَ الحين والآخر على أصدقاء، بعضهم من النُّخب الأكاديميَّة، ووجهاء مُجتمع، وفقراء وعاطلين عن العمل: كم هي الأوقات التي تتحدث فيها مع النَّاس القريبين مِنك؟ الغريب، أنَّ بعضهم أكَّدوا أنَّهم يعيشون بوحدة رغم أنَّهم يعيشون وسط أُسرهم. أغلبيَّة مِنهم، أفادَ وبصريح العبارة، بأنَّ ندرة الحوار في العائلة الواحدة هي التي تحكُم الآن. نعم، تحصل حوارات ولكن في أوقات متباعدة لا تستكمل. أحد الأصدقاء قال لي في حسبة إحصائيَّة إنَّ مجموع ساعات الحوار بَيْنَه وبَيْنَ أبنائه لا يتعدَّى بضع ساعات في الشهر الواحد، وإنَّ الحوار ينقطع بَيْنَنا أغلب الأوقات لمشاغل طارئة. صديق آخر نقلَ لي أنَّ زوجته تستغرق ساعات في حوارات هاتفيَّة تافهة مع صديقاتها، أو تتقلَّب في مكانها لمتابعة طروحات ساذجة لأُخريات، وفي الكثير من الأحيان نجلس صامتين أثناء تناول الأكل إلَّا من صوت هو تقطيع الطعام في الأفواه. الأغرب وفي ظلِّ مصطلح غداء عمل، أو عشاء عمل يتقطع الحديث أثناء الأكل، وتُختتم المداولات بتوصيات يناط إعدادها بمُنسِّقي الحوارات.
بخلاصة استنتاجيَّة، العالَم مصاب بمتلازمة الانقِطاع رغم العدد الهائل من وسائل الاتِّصال التي يملكها، وإلَّا ما الذي دفع هنري كيسنجر أن يحملَ سنوات عمره المئة وقصَدَ العاصمة بكين لِيلتقيَ بالرئيس الصيني شي جين بينج؟ لا شكَّ أنَّه كان بحاجة إلى أن يتبادلَ الحديث معه وجهًا لوَجْهٍ، كان بإمكانه أن يتعرفَ على المواقف الصينيَّة عن كثب عَبْرَ كمٍّ كبيرٍ من المعلومات التي تستطيع أن توفِّرَها له مراكز بحث، جهات استخباريَّة وسياسيَّة، لكنَّه فضَّل المعلومة الطازجة وباليَد. هناك افتقاد واضح لقِيَم الإصغاء المباشر، وإذا كانت المرأة اليابانيَّة تعيش وحيدةً وتشعر بتعاسة اضطرَّتها إلى استخدام مكالمات الطوارئ، فإنَّ هناك الملايين من البَشَر يعيشون المزيد من الظروف (الصامتة)، إذا صحَّ التعبير، لكنَّهم يملكون إرادات قويَّة لمواجهة ذلك بإشغال حياتهم والإصغاء إلى ما ينتجون، لذلك لا مشاكل لدَيْهم يُمكِن أن تضرَّ بهم. الأمْرُ متروك في النِّهاية إلى الإنسان، أن يختارَ ما يجده مناسبًا لمعالجة وقته بدُونِ أيَّة تكلفة ثقيلة.
عادل سعد
كاتب عراقي
abuthara@yahoo.com
المصدر: اخبار جريدة الوطن