عمان في محكمة العدل الدولية
تعتبر قضية الأعلام الفرنسية من أصعب القضايا في تاريخ عمان الحديث، والتي نشأت بسبب التنافس البريطاني الفرنسي في منطقة الخليج بصفة عامة وعمان بصفة خاصة.
وتتلخص هذه المشكلة في قيام بعض المراكب التي كانت تابعة للبحارة في صور برفع الأعلام الفرنسية حتى لا تتعرض لتفتيش السفن البريطانية في عرض البحر، مما أثار حفيظة السلطات البريطانية التي احتجت بشدة على هذا الإجراء، لأنه يعيق حسب وجهة نظرها مراقبة تجارة السلاح وتجارة الرقيق.
وتطورت الاحتجاجات البريطانية في هذا الجانب إلى حد التهديد بالاصطدام العسكري مع القوات الفرنسية، غير أن الرغبة التي أبداها المسؤولون البريطانيون والفرنسيون، في وضع حد لذلك وتجنب إثارة مشاكل دبلوماسية وعسكرية بين بلديهما، والإبقاء على روح التفاهم السائد بينهما، حال دون ذلك الاصطدام، خاصة وأن ذلك جاء بعد نجاح الدولتين في توقيع الاتفاق الودي بينهما عام 1904م، واتفق الطرفان في 13 أكتوبر 1904م، على إحالة قضية الأعلام الفرنسية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي.
اجتمعت المحكمة للفصل في هذه القضية، في 25 يوليو 1905م، وتم اعتماد اللغة الفرنسية لتداول المناقشات الخاصة بالحكم، مع توفر ترجمة إنجليزية. واتفق الجانبان البريطاني والفرنسي، على أن يكون فيكتور ايمانويل Victor Emmanuel قاضيا حياديا بينهما، وقامت بريطانيا بتعيين الأميركي ميليفيل فولر Melvillew Fuller ، رئيس المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية قاضي تحكيم ، فيما اختارت فرنسا الهولندي يونجيردو سافوران لومان Jonkheer de Savornin Lonman ، وزير خارجية هولندا السابق. وعندما لم ينجح الطرفان في الاتفاق على تعيين قاضي ترجيح خلال المهلة القانونية، قام ملك إيطاليا الذي يمثل السلطة المختصة بذلك، بموجب الاتفاق بين البلدين عام 1904م ، بتعيين القاضي النمساوي هنري لاماش Henri Lamache محكما رئيسيا.
وقع الخلاف بين البلدين هذه المرة، عندما قامت بريطانيا بتقديم مذكرة الشكوى إلى المحكمة باسم الحكومة البريطانية وسلطنة مسقط، حيث كانت بريطانيا تهدف من وراء ذلك إلى التأكيد على أن قضية الأعلام الفرنسية تدخل غير مرغوب فيه، ويشكل انتهاكا لسيادة سلطان مسقط، بالإضافة إلى رغبتها في إعادة تأكيد تمثيلها الرسمي لعمان.
احتجت فرنسا على ذلك بواسطة سفيرها في لندن كامبون، الذي أكد على أن تقديم المذكرة بهذه الطريقة يجعل من بريطانيا الوصي الشرعي على سلطان عمان، وهذا يتعارض – حسب رأيه – مع تصريح 1862م ، ومع اتفاق 13 أكتوبر 1904م بين البلدين. وعلى اثر ذلك، أرسلت الحكومة البريطانية الميجر كوكس لمقابلة السلطان فيصل حول ذلك والذي وقع تحت التهديد والضغط البريطاني مرة أخرى، فأرسل إلى القنصل الفرنسي في مسقط رسالة شديدة اللهجة، يؤكد فيها بأن الحكومة البريطانية هي من تمثله أمام هذه المحكمة.
استغرقت إجراءات البث ثمانية أشهر، فصدر الحكم في 5 أغسطس 1905م، وتناول جانبين رئيسيين هما فرنسة السفن، ووضع السفن التي ترفع العلم الفرنسي.
ففيما يتعلق بالجانب الأول، نص الحكم على أنه يحق لأصحاب السفن التي تحمل الأعلام الفرنسية في رفع تلك الأعلام، إذا كانوا قد حصلوا على ذلك الامتياز قبل 2 يناير1892م، أما الذين حصلوا على ذلك الامتياز بعد ذلك التاريخ، فلا يحق لهم ذلك وتم اختيار ذلك التاريخ، لأنه تاريخ التصديق على ميثاق بروكسل الخاص بالتفتيش البحري ومكافحة الرقيق.
أما أصحاب السفن الذين خولت لهم فرنسا حق رفع علمها قبل عام 1892م، فقد حق لهم ذلك طالما قامت الحكومة الفرنسية بتجديده. كما نص الحكم بأنه لا يحق للحكومة الفرنسية بعد 2 يناير 1892م، أن تمنح رعايا سلطان مسقط حق رفع العلم الفرنسي، إلا إذا قاموا بإثبات أنهم كانوا من الرعايا الفرنسيين، وعاملتهم السلطات الفرنسية بهذه الصفة قبل عام 1863م، وهو العام الذي شهد الاتفاق بين الدولة العثمانية والحكومة الفرنسية حول مراكش (المغرب)، حيث تم في هذا الاتفاق تحديد صفة الرعوية بطريقة متقنة.
أما فيما يتعلق بالجانب الخاص بوضع السفن التي تحمل العلم الفرنسي ، فقد نص الحكم على أن سفن مسقط لها الحق في رفع العلم الفرنسي، والاستفادة منه بطريقة لا تنتهك اتفاق 17 نوفمبر 1844م بين مسقط وفرنسا.
وتضمن الحكم على جواز التعرض للسفن العمانية التي ترفع العلم الفرنسي حتى في مياه مسقط الإقليمية، وليس لأصحابها حقوق على البر تحميهم من الوقوع تحت سيادة سلطان مسقط وقوانينه .
ونص قرار المحكمة أيضا، على منع انتقال امتياز تمتع السفن بالجنسية الفرنسية من شخص إلى آخر، أو التنازل عنه حتى وإن كان من ورثته ، وهذا ما قدر للأعلام الفرنسية أن تختفي بعد فترة زمنية من السفن العمانية، بوفاة من كان يحق لهم ذلك الامتياز.
وبعد صدور الحكم أصدر السلطان فيصل إعلانا تفصيليا لقرار حكم المحكمة الدولية تضمن توضيحا لقرارات المحكمة، وقائمة بأسماء رعاياه الذين يحق لهم رفع العلم الفرنسي.
وهكذا فإن المتمعن في قرارات ذلك الحكم، يدرك بأنها لم تكن في صالح فرنسا وجاءت موافقة للمصالح والمطالب البريطانية التي كسبت بفضل هذا الحكم شرعية دولية بوصفها الممثل الشرعي لعمان في شؤونها الخارجية. كما استطاعت التخلص من خطر المواجهة البحرية مع الفرنسيين في الخليج العربي، وهو الأمر الذي كانت تراه يمثل خطرا على مصالحها في منطقة المحيط الهندي.
وبالفعل فإن هذا الحكم أراد أن يقضي على مظهر هام من مظاهر النفوذ الفرنسي في المنطقة، إذ بمقتضاه تم اختفاء العلم الفرنسي من السفن العمانية بعد فترة وجيزة، فبناء على هذا التحكيم اتفقت الحكومتان البريطانية والفرنسية على أن يقوم جري، القنصل البريطاني في مسقط ، ولارونس نائب القنصل الفرنسي ، بوضع قائمة تضم السفن التي ترفع العلم الفرنسي، وتم وضع قائمة في عام 1908م ، اشتملت على 23 سفينة، وفي عام 1917م لم يكن هناك سوى اثنتي عشرة سفينة تحمل العلم الفرنسي.
د. محمد بن حمد الشعيلي
باحث في التاريخ العماني
m-alshuaili@hotmail.com