لم تحتاج الولايات المتحدة يومًا إلى ذريعة إلا وأوجدتها وأخرجتها للرأي العام العالمي والرأي العام الأميركي على وجه التحديد بعد إضفاء ما تحتاجه الذريعة من تدخلات لازمة من أيادي عملاء “سي آي إيه” والبنتاجون والخارجية، لكي يتم إخراجها على الطريقة الهوليودية لتكون أكثر إثارةً وإقناعًا في الوقت ذاته.
منذ صعود نجم الولايات المتحدة في سماء القطبية الثنائية ثم الأحادية كانت ولا تزال صناعة الذرائع رائجة وعلى مستوى كبير لدرجة الافتضاح وتفوح منها روائح التآمر والخبث والتلفيق والاتهام والكذب لفرض هيمنتها على العالم، وبسط نفوذها بما يحقق أهم هدفين استراتيجيين هو هيمنة الرأسمالية المتوحشة على العالم الضامنة للمصالح الأميركية، وضمان كيان الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة وفرضه عليها شرطيًّا إما بالقوة الخشنة على النحو الذي رآه العالم من خلال حرب أفغانستان وحربي الخليج الأولى والثانية، ومن خلال الحروب بالوكالة كالعدوان الذي شنته آلة الإرهاب الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006 وما تلاها من عدوانات على قطاع غزة، وإما بالقوة الناعمة كخيار مجبرة عليه بعدما ثبت فشل القوة الخشنة وما جرته من ويلات وكوارث اقتصادية وإنسانية أطاحت بصورة الولايات المتحدة إلى الحضيض.
لكن من المؤسف أن القوة الناعمة بدت نوعًا من أنواع القوة الخشنة، بل إن لم تكن أشد ضراوة فهي مساوية لها في قوة التدمير وإهلاك الحرث والنسل، وذلك حين لجأت السياسة الأميركية إلى أسلوب قديم استخدمته في مواجهة غريمها اللدود آنذاك الاتحاد السوفيتي في أفغانسان، ألا وهو صناعة الإرهاب وتفريخ جماعاته وقذف كراته في مواجهة الخصوم. ولذلك لم يكن إعلان الولايات المتحدة على لسان أكثر من مسؤول وعميل استخباري أميركي وغير أميركي عن صناعتها “القاعدة” و”داعش” وغيره من مشتقات “القاعدة” سوى دليل على تبني واشنطن هذا الخيار في مواصلة حروبها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية وفي مقدمتها الهدفان الاستراتيجيان المذكوران آنفًا. إلا أن واشنطن ومع اعترافها هذا نجحت عبر تمرير الذرائع التي اصطنعتها أو اصطنعها حلفاؤها في خداع الرأي العام الأميركي والأوروبي بقلب تحالفها مع الجماعات الإرهابية ودورها في صناعته لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية على أنه عداء، حيث أخذت تصور كل تحركاتها في إطار عقد المؤتمرات واللقاءات أو التحالف وبالتعاون مع حلفاء الولايات المتحدة وأتباعها على أنها حرب أميركية على الإرهاب وجماعاته.
التناقضات والمغالطات وحدها تبدو كافية لفضح كل هذه التحركات والمسوغات والحجج الواهية الأميركية، ففي اللقاء الذي افتتحه مساء أمس الأول جو بايدن نائب الرئيس الأميركي حول سبل محاربة الإرهاب الذي دعت إليه الإدارة الأميركية على خلفية الهجمات الأخيرة في فرنسا والدنمارك وحرق “داعش” الطيار الأردني، توجه بايدن إلى مجموعة من المسؤولين الدينيين والاجتماعيين والأمنيين من جميع أنحاء العالم حضروا اللقاء بالقول “إننا بحاجة إلى أجوبة تتخطى المستوى العسكري، إننا بحاجة إلى أجوبة تتخطى القوة، علينا جميعًا بما في ذلك الولايات المتحدة أن نعالج المسألة انطلاقًا من القاعدة فصاعدًا، علينا إشراك مجتمعاتنا وإشراك جميع الذين هم معرضون للتطرف”. فنائب الرئيس الأميركي يجب عليه هو أولًا أن يجيب عن الأسئلة التي يجب أن يطرحها عليه الحاضرون وكل ذي عقل ومنطق وهي: أليس المجتمع السوري هو أحد المجتمعات التي تتعرض للإرهاب والتطرف والعنف والتشريد والتهجير من قبل العصابات الإرهابية، بالتالي ألا ينبغي إشراكه؟ لماذا تقوم الولايات المتحدة بتصنيع المزيد من التنظيمات الإرهابية وتدربها وتسلحها وتجبر حلفاء لها بتمويلها لمحاربة من يدافع عن المجتمع السوري وهو الجيش العربي السوري والحكومة السورية الشرعية التي انتخبها الشعب السوري؟ ولماذا ترفض أن تدخل في تحالفها الدولي الدول المكتوية بنيران الإرهاب وفي مقدمتها سوريا؟ ولماذا تعطل الحل السياسي في سوريا والذي يجنب الشعب السوري ويلات الإرهاب، وتعرقل كل فرص الحوار والحل السياسي؟ بمعنى آخر، لماذا تدعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية والحركات غير الشرعية وتعادي وتحارب الدولة السورية شعبًا وجيشًا وقيادةً؟ ولماذا تلقى أطنان الأسلحة على “داعش” و”النصرة” وغيرهما من قبل أعضاء في التحالف الأميركي لمحاربة الإرهاب؟
إنها أسئلة كثيرة وتتناسل جراء الأدوار السلبية والتآمرية لمعسكر التآمر والعدوان الذي تقوده الولايات المتحدة، وحين تجيب عليها واشنطن عملًا لا قولًا، تكون صادقة في كل تحركاتها وتصريحاتها.