ليس هناك من استثمار أعظم من ذلك الذي يمس وبشكل مباشر العقول، ويلامس متطلبات الحياة ويلبيها بل ويشبعها، ونعني به التعليم بمختلف مستوياته وتخصصاته، ففيه وبه تنهض الأوطان وتزدهر الأمم وتسجل علامات بارزة على طرق التقدم الإنساني، إلا أن هذا الاستثمار يظل ناقصًا أو بالأحرى منقوصًا إذا لم يحقق الأهداف والغايات من نشر مظلته رأسيًّا وأفقيًّا، واعتماد الميزانيات والمخصصات المالية الهائلة، وإذا لم يكن هذا الاستثمار قادرًا على إعداد أجيال قادرة على قيادة قاطرة البناء والتقدم والتطور الحضاري والإمساك بصولجان المبادرة وخوض المغامرات والاعتماد على النفس. كما أنه استثمار لا يرقى إلى مستوى الوصف إذا لم يحقق الاستراتيجيات والفلسفة من ورائه. بل إن النجاح في عملية الاستثمار هذه وتحقيق عائدات كبيرة منها، وجعل التعليم في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحاضرًا على الدوام لتلبية احتياجات سوق العمل ومواكبا لإفرازات العصر، يعبر عن سلامة الخطط ونجاحها ورقي الفكر وعلو كعب واضعي الاستراتيجيات التعليمية في كيفية صياغة وإعداد المناهج التعليمية.
اليوم تبذل دول العالم ومنها السلطنة جهودًا حثيثة لتطوير منظومة التعليم وبرامجه وتخصصاته ومساقاته، ذلك أن قضية ربط التعليم بسوق العمل لا تزال من القضايا التي تشغل صناع القرار والمخططين، والمسارعة إلى تسخير التعليم وخاصة التعليم العالي والفني والتقني ليكون معينًا خصبًا لسوق العمل، وسد الذرائع للعديد من شركات ومؤسسات القطاع الخاص التي تتخذ من نقص أو عدم توافر الكوادر المتخصصة التي تحتاجها طبيعة نشاطها المهني ذريعة لاستقدام الأيدي العاملة الوافدة لكونها أرخص من الأيدي العاملة الوطنية، وتحقق لها ربحا سريعا.
ولما كانت الحياة العصرية تأتي كل يوم بجديد من العلوم والابتكارات والمخترعات، ولما كان التعليم المعمل الذي يشكل العجينة وفق المراد، ويبني العقول ويوجه الطاقات الشابة صوب الأهداف المنشودة نحو تحقيق تنمية مستدامة، كان لا بد من مواكبة هذا الجديد، ليكون مجتمعنا مجتمعًا متعلمًا ومثقفًا عارفًا بتضاريس حياته وحياة الأمم من حوله بكل تفاصيلها، ومتابعًا لكل مخرجات الحركة العلمية والتقنية ومخترعات العصر، ومن هنا يأتي انعقاد ندوة “التعليم والتوجهات التنموية وفرص التوظيف الحالية والمستقبلية في سوق العمل” اليوم والتي ينظمها مجلس التعليم، حيث ستتناول الندوة ثلاثة محاور أساسية تتطرق إلى الثورة الصناعية الرابعة وانعكاساتها على التعليم، وسوق العمل والمشروع
الوطني لمواءمة مخرجات التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل، وكذلك واقع الاقتصاد العماني وتوجهاته المستقبلية وانعكاس ذلك على التعليم والتوظيف. ومن هنا أيضًا يأتي تنظيم فعالية (ربط مؤسسات التعليم العالي في السلطنة بالقطاعين العام والخاص) من قبل جامعة السلطان قابوس وذلك بمركز عُمَان للمؤتمرات والمعارض، مُشكِّلةً بذلك خطوة جيدة وجديدة من خلال رؤية ورسالة مع مجموعة من الأهداف تتمثل في الجمع بين الأوساط الأكاديمية والصناعة وسوق العمل بشكل عام، وذلك سعيًا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للتنمية، فضلًا عن تعزيز الروابط بين أصحاب المصلحة في مختلف القطاعات، من أجل تعزيز التعاون في المشاريع التي تعالج احتياجات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية في السلطنة.
ما من شك أن ثمة قصورًا لدى شركات ومؤسسات القطاع من حيث عدم التطلع أو غياب الرغبة في التنسيق مع مؤسسات التعليم العالي والتقني والمهني تجاه المبادرة إلى احتضان الكوادر وهي على كراسي الدراسة لا سيما تلك الكوادر المجيدة ولديها الموهبة والقدرة على الابتكار والاختراع والبحث العلمي، والأسف سلكت طريق ما تعتقد أنه الأسهل وهو استقدام كوادر وافدة، في تكريس لعقدة الأجنبي وعدم الثقة في الكوادر الوطنية، مع أنه وحسب الإحصاءات، هناك آلاف المخرجات التعليمية الباحثة عن عمل، وهو ما يعني غياب أو ضعف المسؤولية الاجتماعية لدى بعض شركات ومؤسسات القطاع الخاص، ويؤدي في الوقت ذاته إلى عدم استغلال الثروة الوطنية المتمثلة في العقول والطاقات الفكرية لدى شبابنا؛ لذلك نتمنى أن تضع هذه الفعاليات التعليمية جميع المؤسسات الحكومية والخاصة على الطريق الذي ينشد خدمة هذا الوطن ومصلحته عبر تفعيل عمليتي الربط والتنسيق بين هذه المؤسسات.
المصدر: اخبار جريدة الوطن