تطوي ذاكرة النسيان كل المصائب التي تواجه الإنسان أو الأمم، فالحزن مهما بلغ يبدأ كبيرًا وينتهي في جزء ضئيل من الذاكرة يمر مرور الكرام مع بعض الشجن والألم، الذي يتحول بمرور الزمن إلى تاريخ منزوع المشاعر، إلا أن تاريخ الخامس عشر من مايو عام 1948 يمثل ذكرى عصية على النسيان؛ ذكرى تعود بكامل غضبها وحزنها وكبوتها كل عام لتذكر العربي من محيط منطقته إلى خليجها، أن هناك شعبًا لا يزال يدفع ثمن خذلانك، هناك أطفال يولدون في الخيام دون وطن بسبب ضعفك، إنها ذكرى يحاكم فيها الشعب الفلسطيني العالم كل حسب جريرته، فهناك الضعيف، وهناك الخائن، وهناك من تآمر، بكل ما يملك في خلجاته من شرور لارتكاب أكبر جريمة تطهير عرقي في العالم جريمة حدثت وتحدث وتتواصل على مدار ثمانية وستين عامًا.
ففي عام 1948 قامت العصابات الصهيونية التي مهدت الطريق بمجازر يندى لها جبين البشرية لقيام كيان الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك تتويجا لمسيرة أعداء الإنسانية، عندما وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وقسم من أجل دوام التفوق الإسرائيلي، أراضي العرب الذين أسكرتهم الزعامة الحنجورية، وأنستهم واجباتهم تجاه وطن كان يسمى فلسطين، ومن يومها اكتفوا بالخذلان المصحوب ببعض الاستنكار والشجب، ولم يترك أرباب الكراهية والمتسلطون بسيوف القهر على الإنسانية فرصة لدعم كيان الإرهاب الإسرائيلي إلا وفعلوا، خصوصًا وأن كيان القهر تضمن سيطرة الامبريالية العالمية على مقدرات منطقة تشكل مفتاحًا لكل ثروات العالم.
ولعل بقاء مرارة النكبة في حلق كل ما يحمل نوازع عروبية ويغار على قضية العرب المركزية يأتي في ديمومتها، فهذه النكبة مستمرة وتتكرّس من خلال استمرار تنكر كيان الاحتلال الإسرائيلي لحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير، وممارسة الكيان المحتل سياساته التي تؤدي باطراد إلى تهجير الفلسطينيين قسريًّا، وذلك من خلال مصادرة الأراضي ومنع استعمالها، وهدم المنازل، والحرمان من حقوق الإقامة والسكن، بالإضافة إلى استمرار التوسع الاستيطاني، وهي معاناة كبيرة لا تقتصر على هؤلاء الذين لا يزالون يعيشون داخل فلسطين بحدودها الانتدابية، وإنما تمتد لتشمل ما يزيد على 6.2 مليون فلسطيني يعيشون في دول الشتات.
وهي ذكرى توحد الجماهير الفلسطينية الذين سكنوا الشتات وانقسموا في الداخل بين عرب 48 وفلسطينيي الضفة وغزة، وبين فتحاوي وحمساوي، إنها ذكرى تجمع وتخرج منها الدعوات تطالب بأوسع مشاركة جماهيرية حاملةً شعارًا واحدًا يذكر العالم قبل كيان الاحتلال بأن ما يزعمه أنه يوم استقلاله ما هو إلا نكبة لشعب نكل به وهجر منه حوالي 760 ألف فلسطيني من أراضيهم نتيجة الخوف والترهيب والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية أمثال الشترين والهجانا وغيرهما والإبادة الجماعية التي مُورست بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وكذلك قيامها بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره تحت وقع المجازر الدموية لتلك العصابات الصهيونية مثل مجزرة بايكة القواسمي وعسلوج وجبارات ودير ياسين وغيرها من المجازر التي تحاكم التاريخ ذاته، ولقد وثقها باحثون من كافة الجنسيات بينهم اليهود أنفسهم.
إنها الذكرى الـ68 لضياع فلسطين التاريخية بمدنها الخالدة في الذاكرة الفلسطينية مثل بربرة، ودير دبوان المحتلة، وحمامة وسدود ويبنا وصفد وحيفا ويافا وتل الربيع وأم الرشراش وعكا واللد والرملة ودير سنيد وغيرها التي تحمل الكثير والكثير من التاريخ الإجرامي المسكوت عنه الذي تخلى حتى الفن العربي المتخاذل عن توثيقه وسرده بإنتاجات ضخمة خوفًا من اللوبي الإسرائيلي الذي يسيطر على صناعة السينما، هل ها التخلي سهوًا أم سكون مقصود يهدف إلى الاعتماد على طبيعة النسيان، طمعًا أو خوفًا من سطوة كيان الاحتلال وما يملكه من لوبيات تملك تدمير من يناوئه، في حين يسعى كيان الاحتلال في كل المحافل الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى تدمير الهوية الفلسطينية وطمسها وتهويدها ومحو الأسماء الجغرافية العربية وتبديلها بأسماء عبرية، وتدمير طبيعة البلاد العربية الأصلية.