كما في كل دورة تعقدها الجمعية العامة للأمم المتحدة، تأتي دورتها الحادية والسبعون نسخة مكررة، مُحافِظةً على تلك الصورة النمطية المملة لتعكس الوضع المتردي والمأزوم الذي يعيشه العالم، باعتبار أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس أمنها أو مجلس حقوق الإنسان أو المنظمات التابعة لها هي مرآة عاكسة للوضع الدولي العام، وللسياسات الدولية وبخاصة سياسات الدول الكبرى النافذة والمتحكمة في مفاصل المنظمة الدولية وقراراتها.
ووفقًا لذلك، يتحول منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى بازار يتنافس فيه قادة الدول الكبرى في إلقاء خطبهم المفعمة إما بالتحريض والتشويه واستغلال التجمع الأممي لذلك، وإما بالدفاع عن سياساتهم حتى لو كانت هذه السياسات مخالفة للقانون الدولي وللشرعية الدولية ولمواثيق الأمم المتحدة، في صورة متناقضة ومؤكدة لحالة الخلل التي تعيشها الأمم المتحدة وانفصامها عن الواقع جراء اختطافها من قبل بعض القوى الكبرى تأتي في طليعتها الولايات المتحدة، ويساندها في عملية الاختطاف كل من بريطانيا وفرنسا، في حين يفترض بها أن تكون منظمة خادمة لقضايا الشعوب وخاصة القضايا العادلة كالقضية الفلسطينية، والقضايا الدولية عامة.
الخطابات التي افتتحت بها الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة يوم أمس، ونعني بها تحديدًا خطابي بان كي مون الأمين العام للمنظمة الدولية وباراك أوباما الرئيس الأميركي، لم تختلف عن السابق، حيث لم يخرج خطاب بان كي مون عن السياق المعروف المعبأ دائمًا بعبارات القلق لدرجة أن كلمات الخطاب تكاد تتصبب عرقًا من كثرة القلق، ما أصابها الارتباك خاصة حين أتت على الشأن الفلسطيني والقضية الفلسطينية والأزمة السورية، حيث ارتهن إلى اللغة ذاتها بأن الحل الوحيد “للنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني” هو حل الدولتين، وأن حل الدولة الواحدة “سيؤدي للدمار” لكلا الطرفين، وهي لغة لم تفقد معناها اللغوي فحسب، وإنما فقدت معناها السياسي، جراء تكرارها الممل دون أن ترافقها خطوات تثبت حسن النيات وصدق المقترح، وفي الوقت الذي تعزف فيه الأمم المتحدة وأمينها العام معزوفة “حل الدولتين” ومعهما الولايات المتحدة ورئيسها أوباما كاتب نص هذه المعزووفة ومُلَحِّنُها، تتواصل جرائم الحرب الإسرائيلية والانتهاكات والإرهاب والاستيطان والتدنيس والتهويد، وقضم الحقوق الفلسطينية قطعة قطعة، ما بدا أن هذه المعزوفة نسخة مكررة من خطة خريطة الطريق التي أعلنها سلفه جورج بوش “الصغير” لتكون ملهاة للفلسطينيين والعرب لنهب الحقوق الفلسطينية، وما رسالة الضمانات التي بعث بها بوش لصديقه وحليفه أرييل شارون إلا إحدى دلالات خديعة هذه الخطة. أما بالنسبة للشأن السوري فلم تختلف لغة الخطابين لكل من بان كي مون وباراك أوباما في سلبيتها؛ فمثلما هاجم الأول الحكومة السورية وحرض ضدها شاركه بالقدر ذاته الأخير في التحريض والتشويه وتوزيع الاتهامات على كل من روسيا وسوريا، قائلًا أن لا حل عسكريًّا في سوريا في الوقت الذي تواصل فيه إدارته دعم التنظيمات الإرهابية بالأصالة والوكالة.
وبينما يستمر إلقاء الخطب الرنانة والمحرضة والخارجة عن المألوف وطبيعة المكان الذي تنعقد فيه الدورة الحادية والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة، وطبيعة الأهداف التي يجب أن تخدم الأمن والاستقرار والتنمية في العالم، تضيع القضايا الأهم التي تمثل الهم الأكبر للشعوب مثل الإرهاب والعنف والاقتصاد والاحتباس الحراري وتغيرات المناخ والتنمية، وتوفير فرص العمل للباحثين عن عمل وخدمة قضايا الشباب، والأمراض والفقر والمجاعات والصراعات الحدودية وغيرها.
إنها دون شك إرادة القوى الكبرى النافذة التي أرادت أن تحوِّل ـ بسياساتها الاستعمارية والتدميرية والتخريبية ـ الأمم المتحدة إلى هَمٍّ إضافي على الهموم التي تثقل كاهل شعوب العالم.