تأتي أيام الحج بنفحاتها وبركاتها في زمان طغى فيه الانشغال، وسيطرت فيه المادة، وانشغلت النفوس بمشاغل شتى، وتفرقت تفرق أودية الحياة الدنيا، في عالم إسلامي تستهدفه المؤامرات التي تنسج من كل حدب وصوب، وتنهكه الفرقة والتنافر، وتكالب عليه الأعداء مستغلين حالة التشرذم التي يحياها، مستخدمين بعض الأفعال التي تصدر من بعد المنتسبين لهذا الدين العظيم، أو الذين يتخذونه ستارة لأغراضهم الموتورة. ففي يوم الحج الأعظم يتحرر المسلمون من بعض ما ألمَّ بهم، ويشرعون ببركات أيام الحج، سواء كانوا حجيجًا لبيت الله، أو يتلمسون فضل أيام العشر الأوائل من ذي الحجة المباركة، في تفحص كوامن أنفسهم لإحياء معانٍ وقيم انزوت في جوانب نفوسهم بحكم التلوث الروحي الذي ألمَّ بهذه الأمة العظيمة، يتربصون بكل ما يقربهم لرب العزة، ليفروا منه إليه، متلمسين القرب والقبول سائلينه التوفيق والسداد.
ففريضة الحج تحمل من المعاني ما نحتاجه لتقويم واقع صنعته أيدينا، فوصلنا لحال من التشرذم والتناحر، وصلنا لإهلاك الذات، مما يكفي أعداءنا التآمر لتدميرنا، ففريضة الحج تحمل العديد من المعاني التي إذا تمسكنا بها عادت لهذه الأمة أمجادها، وصححت الأفكار الضالة المضلة التي تحمل في طياتها الإرهاب الأسود، الذي ابتلينا به في زماننا نتيجة أفكار تخالف صحيح الدين الحنيف الوسطي الذي ينبذ العنف ويدعو إلى السلام والمحبة والإخاء، وهو رسالة عظيمة لأعداء الإسلام تؤكد قدرة هذه الأمة على الاجتماع والوحدة؛ فالمسلمون وإن كانوا مفترقين مختلفين فإن مجرد اجتماعهم على اختلافهم في وقت معين ومكان معين يدل على إمكان اجتماعهم في غيره، وهي رسالة للمسلمين أنفسهم، يتم فيها بيان أهمية الاجتماع والتآلف بين المسلمين فإن كل إنسان تجده يسافر وحده بينما عند الحج تجده مع مجموعة.
فالوحدة هي الشعار الأهم التي نتعلمها من هذه الفريضة العظيمة؛ فالحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد: الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، الكل في ميزان واحد، فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم.. وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول تؤكد أن الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون ربًّا واحدًا، ويتبعون نبيًّا واحدًا، وهي رسائل نفتقدها في عالم يموج بالصراعات وتفوح منه رائحة البارود والدماء، عالم يحتاج للسلام والسكينة، بقدر حاجته للماء والغذاء.
وحتى من لم يؤدِّ فريضة الحج فهو يتلمس في هذه الأيام المباركة الخير والرضا، ففي هذه الأيام يمنُّ الله عليهم بالعبادة والتقرب، والتوبة والمراجعة، والتفكر والتأمل، والمتعة والسعادة، والفسحة واللهو المباح، فالعيد في الإسلام شعيرة من الشعائر المهمة، شرعه الله لتستكمل حلقة البر في المجتمع الإسلامي كاملة، فالعيد في منهج الإسلام عبادة وعمل، سرور وشكر، بهجة وفرحة، سلوكيات وأخلاق، عفو وإخاء، فالناس يتبادلون التهاني ويتصالحون وتعقد مجالس التواصل والتراحم والمودة فتتجدد العلاقات الإنسانية وتقوى الروابط الاجتماعية وتنمو القيم الأخلاقية وتعلو قيمة التآخي والتعاون والبذل والعطاء والجود والكرم والتراحم والتعاطف إلى حد أن تذوب المصالح الشخصية، والمآرب الآنية المؤقتة بدافع الرغبة فيما عند الله تعالى.
تلك المبادئ والقيم الراسخة والدلالات البالغة والمظاهر الإنسانية والإسلامية القويمة، ومظاهر العيد ومباهجه أكدتها خطبة العيد، حيث احتفلت السلطنة أمس بأول أيام عيد الأضحى المبارك، وقد أدى الصلاة صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد نائب رئيس الوزراء لشؤون بمسجد الخور في مسقط، حيث جاءت خطبة العيد التي ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور إسحاق بن أحمد البوسعيدي رئيس المحكمة العُليا ونائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء مفعمة بالحكمة البالغة
متناولة مشاعر الحج والمشهد المعبر عن وحدة المسلمين في صعيد عرفات الطاهر والدعوة إلى الوحدة والتعاون، الأمر الذي تصبو إليه النفوس الخيرة لأنه مظهر من مظاهر الألفة، إضافة إلى أهمية الاستقرار والأمن والأمان الذي بسطه الله عز وجل في وطننا العزيز. فمن هذه الخطبة نستلهم طريق الصواب ونؤوب إلى الصراط المستقيم، ونتمسك بدين الله القويم حتى نفوز بخير الدنيا والآخرة. إنها مناسبة جليلة ينتظرها المرء المسلم من العام للعام ليعمر قلبه بالإيمان، ويستقيم على النهج القويم ويهتدي بنصائح أهل الذكر، فهكذا أمرنا كتاب الله العزيز، وهكذا علمتنا سنة نبيه الأمين حتى نزداد ثقة في أنفسنا وفي عقيدتنا وفي قيادتنا الحكيمة، وفي ذلك ما فيه من التماس للأمن والأمان واستقرار الوطن، وتمهيد السبيل لكل مواطن كي يعيش آمنًا مطمئنًّا على يومه وغده ومستقبل أبنائه، فنعمة الأمن من النعم العظيمة الواجب شكرها بالحفاظ عليها.