مرة أخرى يعود ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث بعد أن وضع على الرف لحوالي ثلاث سنوات انتظارًا لما ستسفر عنه أحداث ما سمي “الربيع العربي” حيث كان رهان الأطراف الفلسطينية على أن هذا “الربيع” سيمكنهم من قطف ثماره، وأن كل ما يعتري المشهد العربي من حراكات هي مخاض يزف البشرى إلى الشعب الفلسطيني لما ستؤول إليه قضيته العادلة من انتصار محقق يعيد الحق الفلسطيني المسلوب ويعيد للمواطن الفلسطيني كرامته وعزته اللتين ظل الاحتلال الإسرائيلي ينال منهما باستمرار، ويصون الكبرياء الفلسطيني ويعيد المجد العربي.
إلا أن الشعب الفلسطيني ـ كما غيره من الشعوب العربية ـ تفاجأ بالارتجاع العكسي، وأن الحراكات التي سيطرت على بعض دول ما سمي “الربيع العربي”، لم تجرِ سفنها وفق ما يشتهيه لا الشعب الفلسطيني ولا بقية الشعوب العربية، بل إن حالة الفوضى أخذت تتسبب في خنق القضية الفلسطينية في الوقت الذي كانت فيه بأمس الحاجة إلى أن تتنفس أوكسجين عربيًّا صافيًا بعد أن ظلت لأكثر من أربعة وستين عامًا تتنفس فيه القضية هواءً ملوثًا بالمؤامرات والنفاق والخنوع والوهن والرجعية في أحد مفاصلها ومراحلها على النحو الذي نشاهده اليوم، حيث أخذت ملامح المؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية (القضية المركزية للعرب) تتكشف من خلال رفض الاحتلال الإسرائيلي الاعتراف بحدود عام 1967م واقتراح بدلًا منها ما سمي بتبادل الأراضي، ورفضه الاعتراف بحق العودة للاجئين ورفضه الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة، وإزاء هذا الرفض تستمر آلة الاستيطان في نهب ما تبقى الأرض الفلسطينية، ليقف الشعب الفلسطيني على ثالثة الأثافي حول المفاوضات الحالية ليكتشف أنها لم تكن سوى إحدى المسرحيات الإسرائيلية بإخراج هوليودي بهدف فرض الأمر الواقع بقضم الحق الفلسطيني، ولما اكتشف الفلسطينيون خديعة هذه المسرحية رافضين تمديد المفاوضات جاء الرد سريعًا برفض الاحتلال الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الذين أعلن المحتلون الإسرائيليون التزامهم بالإفراج عنهم، وذلك بقصد الابتزاز وتدوير القضية والفلسطينيين في حلقة مفرغة جديدة.
إن هذا الواقع المؤلم لمصير القضية الفلسطينية والغموض الذي يكتنف مستقبلها، أصبح بحاجة إلى حراك فلسطيني ـ عربي جدي وخطوات عملية لانتشال القضية من هذا الخطر المحدق بها، وتعد خطوة السلطة الفلسطينية بطلب الانضمام إلى خمس عشرة معاهدة دولية واحدة من الخطوات العملية، غير أنها تبقى خطوة منقوصة وغير فعالة ما لم تُضَفْ عليها الخطوة الأكبر والأثقل على قلوب المحتلين الحاقدين المبتزين الكارهين للسلام والرافضين الوفاء بالاستحقاقات الواجبة عليهم تجاه عملية السلام، ألا وهي خطوة المصالحة الوطنية الفلسطينية التي بلا شك خطوة يحسب لها كيان الاحتلال الإسرائيلي ألف حساب ويتخوف منها، لأنه يدرك ما تعنيه الوحدة؛ وحدة الكلمة وحدة الصف وحدة الموقف، فهي مصدر قوة وضغط كبير، وهو ما يعني التقاء النضال السياسي والعمل المقاوم وعودتهما من جديد، ولم يصدق المحتل الإسرائيلي أنه استطاع أن يحافظ طوال ما يزيد عن تسع سنوات تقريبًا على الانقسام الفلسطيني باذلًا كل جهد ممكن؛ تارة بالترهيب وتارة أخرى بالترغيب لمنع أي فرصة تسمح بإنهاء الانقسام.
ولذلك فإن المصالحة وإنهاء الانقسام تمثل فرصة تاريخية، وهي فرصة ستكون ما بعدها، خاصة وأنه لم يبقَ من شيء من القضية إلا وطالته يد الاحتلال والإرهاب والتهويد والتدنيس الإسرائيلية، وبالتالي فإن إعراب عزام الأحمد مسؤول ملف المصالحة عن تفاؤله بإمكانية طي صفحة الانقسام قبيل وصوله والوفد المرافق أمس إلى قطاع غزة، مؤكدًا أن ساعات قليلة تفصل الفلسطينيين عن تحقيق المصالحة، يبعث بصيصًا من الأمل ـ رغم الشكوك المتراكمة لا سيما بعد جولات الحوار التي عقدت ولم تثمر عن شيء ـ في إمكانية خروج القضية الفلسطينية من عنق الزجاجة، وإمكانية أن يسري في رئتيها (فتح وحماس) أوكسجين نقي، لتعود إلى انتعاشتها وحيويتها وألقها. ولهذا أصبح ـ ونقولها للمرة المليون ويطلقها صرخة كل فلسطيني وكل عربي ـ غير مقبول العودة عن خيار المصالحة وإزجاء سحب الخيبة على الشعب الفلسطيني.