لم يكد يمضي وقت على إعلان اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه كل من موسكو وواشنطن وسريان تنفيذه، حتى بدأ التلكؤ الأميركي في الالتزام ببنود الاتفاق ـ التي لاتزال سرية ومحفوظة في خزانتي الخارجيتين الروسية والأميركية ـ صخرة في طريق تطبيق الاتفاق، وكأن الولايات المتحدة أرادت من وراء هذا الاتفاق شراء الوقت اللازم لمواصلة العبث بالدم السوري، وذلك بالاستمرار في دعم التنظيمات الإرهابية؛ لكونها القوى التي تحارب بالوكالة عنها ومعسكرها الدولة السورية وحلفاءها، وبالتالي تجد واشنطن نفسها ملزمة بمواصلة تقديم الدعم اللوجستي، يعاونها في ذلك بعض القوى العميلة والتابعة لها والتي تشاركها التوجه ذاته والأهداف نفسها؛ أي تدمير سوريا وتحويلها خرابًا يبابًا مثلما فعلت في العراق وليبيا.
من الواضح أن التلكؤ الأميركي ومحاولة واشنطن تغطيته ـ والذي يكاد يصل إلى التنصل الواضح مما وقَّعت عليه في الاتفاق ـ بسبك الاتهامات الباطلة ونسج الافتراءات المضللة ورميها تارة على روسيا الاتحادية بأنها عاجزة عن ممارسة ضغط أكبر على الحكومة السورية وعلى الجيش العربي السوري فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، وتارة برميها على الحكومة السورية والجيش العربي السوري بأنهما يعرقلان دخول هذه المساعدات، من الواضح أن هذا التلكؤ لا يعبِّر فقط عن عدم جدية واشنطن تجاه الاتفاق وتنفيذ بنوده بندًا بندًا، وإنما يؤكد وجود شيء ما يدور في عقل الأميركي يعمل على تحقيقه عبر الاتفاق. وليس التركيز الأميركي ـ وكذلك التوابع والعملاء والأدوات للسيد الأميركي ـ على عامل المساعدات الإنسانية إلا إحدى القرائن الدالة عليه؛ فالدولة السورية لم تعرقل ولم تمنع المساعدات الإنسانية، بل العكس من ذلك كانت هي والجيش العربي السوري أول المنفذين لاتفاق وقف إطلاق النار الروسي ـ الأميركي، ولا تزال هي والجيش يحترمان الاتفاق ويرحبان بدخول المساعدات ووصولها إلى كل مواطن سوري تحاصره التنظيمات الإرهابية؛ لجهة أن هذا الاتفاق حاجة إنسانية ملحة من حيث توفير المواد الغذائية والصحية ومظاهر الأمن والاستقرار والعيش الكريم وتوفير الهدوء والراحة، وتجنيب المواطنين السوريين ويلات الإرهاب التكفيري الظلامي، ومخاطر التشريد والتهجير التي قامت ولاتزال تقوم بها التنظيمات الإرهابية تنفيذًا لأوامر أسيادها المتآمرين على سوريا لأسباب ديمغرافية عملوا عليها منذ أول وهلة على تفجير مؤامرتهم الإرهابية على سوريا وشعبها وجيشها وقيادتها، وهي أسباب ـ كما تبدو ـ تتعلق بمخطط تقسيم سوريا الذي يشير إليه تركيزهم على مناطق بعينها إما استهدافًا، وإما حصارًا، وإما الاثنين معًا.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تقوم بها الحكومة السورية وكذلك الجيش العربي السوري من أجل إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة من قبل التنظيمات الإرهابية، فإن تركيز معسكر التآمر والعدوان على المساعدات الإنسانية وتوظيفها في قذف الاتهامات الباطلة بحق سوريا وحليفتها روسيا ـ رغم إخلاء الجيش العربي السوري طريق الكاستيلو وسحب معداته الثقيلة منه ـ لا يمكن فهمه إلا على أنه انتقال أميركي من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم بعد افتضاح الولايات المتحدة وانكشاف أمرها أمام العالم بأنها أول المخلين بالاتفاق، بمماطلتها في فصل من تسميهم بـ”المعارضة المعتدلة” عن التنظيمات الإرهابية المتطرفة وتحديدًا ما يسمى تنظيم “جبهة النصرة”، والتلكؤ في تسليم موسكو بيانات بمناطق تركز المعارضة الأميركية “المعتدلة”. وهذا ما دفع موسكو إلى مطالبة واشنطن برفع السرية عن وثائق الاتفاق وتعريف العالم بها، والذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار من المجلس بتوثيق الاتفاق والتأكيد عليه والالتزام به، مثلما تم مع تفاهمات فيينا. ومع ذلك لاتزال واشنطن تطالب ببقاء حاجز السرية على وثائق الاتفاق.
إذًا، يعد الاتفاق محكًّا جديدًا لجميع الأطراف، حيث تبدو مصداقية الولايات المتحدة ومعسكرها أمام اختبار آخر تشير نتائجه إلى افتضاح جديد لهذه المصداقية المضروبة أساسًا، وبالتالي لا يختلف هذا الاتفاق عما سبقه من اتفاقات وهدن، حيث كان إفشال الأميركي وأدواته وأتباعه سريعًا بعد إنجاز ما أرادوه ليعيدوا جولاتهم الإرهابية من جديد؛ أي أنهم يريدون أن تظل سوريا تدور في حلقة الإرهاب التي صنعوها.