يسقط القادة شهداء في غزة فلسطين، وكل شهدائها قادة .. لن يفرح كثيرًا العدو الصهيوني، وهو أول من يعرف أن الطفل الفلسطيني قائد كبير، وأنه بالتالي مشروع شهيد سواء كان صغيرًا أو كبيرًا. فعلى مدار أكثر من خمسة وأربعين يومًا يظل الجرح الفلسطيني مفتوحًا، لكنه بالمقابل يصنع حرية ويقرب المسافة إلى فحوى المطالب الفلسطينية.
إذا كان نتنياهو سيتباهى أمام قطعان المستوطنين بأنه قاتل للشهداء، وأنه سوف يتنفس الصعداء أمام شعبيته الذين لن يسقطوه بعد الآن كما يعتقد، فإن عليه أن يعرف أنه يترجم هذا الفعل الآثم قوة صمود لدى الفلسطينيين، وقوة نارية تخرج من بين أيديهم لتدك معاقله في كل أرجاء فلسطين المحتلة.
ليست هي المرة الأولى التي يسقط فيها قادة، وشهداء فلسطين صغارًا أو كبارًا كانوا هم من هذا الصنف المضحي، إنها مدرسة علمت الدنيا منذ عشرات السنين أن دمها لن يضيع حقها التاريخي، وأن مقاومتها ستظل تكرس الأمل باستعادة الحق السليب، وأن أجيالًا وراء الأجيال لن تبخل على أن تظل جسرًا متعاظمًا من أجل الهدف الأكبر في التحرير والعودة المظفرة.
مباركة تلك الأرض الفلسطينية التي لم تغلق على مدار أيام الصراع مع العدو الصهيوني في غزة، إنها الفوز العظيم لمن آمن بقولة محمود درويش بأن “هذه الأرض جلد عظمي وقلبي فوق أعشاشها يطير كنحلة”. فليس من قلب فلسطيني إلا وله جذره الطبيعي الممتد في تربة بلاده، وليس من فلسطيني، إلا ولروحه الطاهرة أجنحة تطير فوق أرضه تلثم حقولها وزرعها وتشتم رائحتها، تسابق النسيم حين يدغدغها وتظل يقظة كي لا يذهب الافتتان بأرضها.
صحيح أنه لمؤلم أن تنعى فلسطين شهداء من هذا النوع المتقدم في قيادة المرحلة، لكن الأرض الفلسطينية معطاءة، وأرحام النساء الفلسطينيات قادرة على إنجاب المثيل وأكثر، وقد قيل إن ما أنجبته الأمهات الفلسطينيات في غزة خلال العدوان فاق أعداد شهدائها، وإن الذين حرمهم العدو الصهيوني من إكمال حياتهم، لن يتمكن من القضاء على الأرحام الولادة التي نحيي فيها قدرتها تلك ونطالب المزيد من الولادات، فالشعب الفلسطيني يسابق الريح من أجل الوصول إلى الغايات التي عاش من أجلها، ويستشهد دفاعًا عنها.
كانت وصية الثائر الفيتنامي الكبير هوشي منه بضع كلمات إلى أطفال بلاده الذين برأيه ولدوا والذين لم يولدوا بعد أن يكملوا المسيرة. فكيف عندما تكون المسيرة ثورية فاعلة، وقد جبلت بأحلام الوطن وبقدسيته، كما تمرغت بثراه ولو خياليًّا. نحن إذًا أمام أرقى حالة ثورية إنسانية يخطها الفلسطينيون منذ أن تدافعوا إلى صناعة حياتهم بالطريقة التي تليق بالثوار الأحرار.
نترحم على الشهداء الكبار، لكن شهداء فلسطين كلهم من هذا الصنف، وحتى الأجنة منهم. لعل مشهد غزة التي لا تمضي ساعة وأحيانًا دقائق معدودات إلا ويسقط لها شهداء، دماء لن تذهب هدرًا، وملحمة يتزاحم فيها كل ذي عملاق وطني.
كلما سقط شهيد، صارت فلسطين على أمتار .. وكلما أطلق صاروخ من غزة وفي هذه الظروف التي تساقطت فيها أبجديات الرضوخ للعدو الصهيوني، سيغير من شكل المؤامرة التي يتدافع لإحلالها قادة هذا العدو ومن إلى جانبه في مهمته المسعورة.