إعداد ـ فيصل بن سعيد العلوي :
تسعة وثلاثون يوما مضت على الحزن الذي تدثرت به عمان من أقصاها إلى أقصاها، وشاركتها فيه جميع الدول… وبأربعينها لن ينتهي هذا الحزن بلا شك، فالراحل لم يكن شخصا عاديا أو حاكما مر على إحدى محطات التاريخ عابرا عبور الكرام، بل كان علامة فارقة شكلت منعطفا هاما وبارزا على صعيد القيادة السياسية، تعدت إقليمها لتضع بصمتها واضحة على خارطة السياسة الدولية، وشكل فكرها مدرسة مستقلة ما زال منهجها المرموق المتشح بالحكمة معتمدا وموضع اعتبار…
كل شبر في هذه الأرض التي قلت عنها ذات يوم بأنها طيبة لا تقبل إلا طيبا يشهد لك بأنك كنت ترجمة حقيقية لهذه العبارة،
جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراك ـ سطرت ملامح سياستك الحكيمة العظيمة مسارات عدة في ملفات متنوعة حول هذا العالم الكبير الذي أحبك مثلما أحببناك وبكاك مثل ما بكيناك.
ستظل ساكنا في القلوب وسنظل لك أوفياء وأبناء بررة صادقين ووافين لما عاهدناك به ومساهمين في بناء هذا الوطن الذي أمنتنا عليه تحت القيادة التي توسمت فيها كل الخير…
سنظل كما عهدتنا أوفياء لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ مخلصين له ولمجد عمان العظيم وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ، سنظل محافظين على المنجزات مشمرين عن سواعد الجد لمستقبل أفضل إن شاء الله …
جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراك ـ كل هذا الوطن العربي الكبير أراد أن يؤبنك في كلمات مما يختلج في نفسه، فمنهم من عبر بمقاله ومنهم من عبر بلسان حاله.. وكانوا جميعا صادقين معبرين عن شخصيتك العظيمة وكأنك لا تزال بيننا وكأن غيابك في جوهره ليس إلا وجها آخر للحضور، وها هم مبدعو الوطن العربي الكبير يرثونك بكلماتهم ويقدمون شهاداتهم حول أعز الرجال وأنقاهم… فجزاك الله خير ما جزى سلطانا عن شعبه وبلده وأمته وأنزلك منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
هوية عمانية خالصة
بداية يقول معالي صلاح بن غانم العلي وزير الثقافة والرياضة القطري : مما لاشك فيه أن رؤية جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ رحمه الله ـ لامست جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع العماني إلا أن اهتمامه بالهوية الوطنية يظل هو العمل الأسمى، فقد عزز المنطلقات الأساسية للهوية الوطنية للشعب العماني الشقيق، فهو لم يدعُ إلى الاهتمام بمقومات الهوية الظاهرة فحسب من عمارة ولباس ولهجة وفنون وغيرها من تعبيرات بل عمل على دعم هذه المنطلقات من خلال نشر مبادئ الكرامة الإنسانية والعلاقة مع الآخر بين مكوناته وخارجيا مع المجتمعات الأخرى، وهذا ما أسس لعمان تنعم السلام وتنشدهُ في العالم. وطالما تكررت هذه المبادئ في الخطاب السلطاني لتكون ثوابت لا غنى عنها في تشكيل مقومات الهوية الوطنية العمانية. وارتبطت هذه المبادئ بالقيم التاريخية للشعب العماني، لتعبر عن الامتداد بين الأجيال، وهو ما عبر عنه الراحل جلالة السلطان قابوس، بأن شرط أي نمو يقترن بتحقيق الارتباط مع الجذور وذلك في عبارته الخالدة” لا نمو بلا جذور”. وأصبحت الهوية العمانية متميزة بفضل هذا الجمع بين المقومات الظاهرة والعميقة، ذلك أن صون الهوية الوطنية أدى إلى تحقيق النهضة العُمانية الحديثـة ونجاح عمليات البناء والتنمية الوطنية ومنها تشييد الدولة العصرية. وقد جعلت المبادئ الرفيعة للهوية المجتمع العماني متماسكا، ومعتزا بوجدانه الأصيل، ومنفتحا بوعيه على العالم. وقد انعكس ذلك في الإنتاج الثقافي للمثقفين والمبدعين العمانيين الذين وجدوا مناخا ملائما للإبداع، وبينوا من خلال إبداعاتهم التناغم بين الشخصية العمانية وتاريخها الثقافي والحضاري، وقدرتها على التحديث دون أن تفقد مميزاتها.
وأضاف وزير الثقافة والرياضة القطري انعكست الجهود التي أرساها جلالة السلطان قابوس رحمه الله في إنشاء مؤسسات ثقافية تصون الهوية الوطنية وتمكن المجتمع العماني من التفاعل مع غيره من المجتمعات بثقافتها المتنوعة دون أن يبقى رهين مكتسبات الماضي، ولذلك تطور الاستثمار الثقافي في السلطنة باعتباره مظهرا من مظاهر اقتصاد المعرفة. ومن هذه المؤسسات المتحف الوطني الذي يحتوي على نفائس التراث العماني والمقتنيات المادية والرمزية التي تُحافظ على المكونات الفنية والثقافية والتاريخية للشعب العماني. وقد استطاع العمانيون في سياق هذه الرؤية لقيادته الرشيدة، أن يوظفوا الممتلكات الثقافية والمقتنيات التراثية لتطوير السياحة الثقافية وتحقيق التنمية المستدامة، كما بينت التجربة العمانية في تناول الهوية الوطنية أهمية البحث عن فرادة المجتمع في نطاق قبول التنوع، وهو الكنز الحقيقي الذي يتناقله العمانيون جيلا بعد جيل بفضل العمل التأسيسي الذي قام به جلالة السلطان قابوس رحمه الله، فساهم في نهضة المجتمع العماني مثلما ساهم في نشر ثقافة السلام والحوار بين الحضارات إقليميا ودوليا.
رحم الله جلالة السلطان قابوس وأسكنه فراديس جنانه، وعزاؤنا أن جلالة السلطان هيثم بن طارق هو خير خلف لخير سلف وسيواصل مسيرة نهضة المجتمع العماني، سيما وأنه رجل الثقافة والحريص على تعزيز الهوية الوطنية.
عصر النهضة و الثقافة
ومن دولة الكويت الشقيقة يقول سعادة كامل سليمان العبدالجليل أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب: اكتسبت السلطنة صفة الحياد والوسطية في سياستها الخارجية على مدى خمسة عقود مضت، وهي فترة حكم المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ والذي بوفاته فقد العالم داعية سلام وحاكماً رشيداً استطاع بكل اقتدار وحنكة استخدام طاقات الشعب العماني وثرواته وسماته السلوكية والثقافية في إعطاء الصورة الحقيقية والواقعية لكل ما يتصل بعمان والعمانيين.
لقد حظي هذا البلد الجميل بثقافته وجغرافيته الفريدة، وتمازج مكونات شعبه المميز بفرص نادرة قادت لدخولٍ مظفَر لما يمكن تسميته بـ (عصر النهضة والثقافة) من أوسع أبوابهما، وكانت التجربة العمانية هنا من بين أبرز تجارب تفعيل مكونات السلم الاجتماعي وتحريك منابع التنمية الشاملة لبلد يقع في مواجهة محيطات مائية واسعة، وبلدان ذات ثقافات وديانات ومذاهب مختلفة استطاعت القيادة العمانية الاستفادة القصوي منها وذلك إنطلاقاً من صفات الشعب العماني المنفتح البعيد عن الإنكفاء والغلو.
وأضاف امين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت: لقد انتبهت السلطنة بفضل قيادتها الحكيمة ورمزها السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ منذ بواكير عقد السبعينيات من القرن الماضي إلى أهمية الثقافة والفنون كركن أصيل من أركان قيام الدولة وبث الحرية في عقل الإنسان وجعله منسجماً مع محيطة المادي والبشري، واستطاعت حنكة هذا القائد الفذ عبر خمسين عاماً من نشر الوعي والفكر المستنير البعيد عن الآيديولوجيات، وبدأت القيادة العمانية الرشيدة منذ ذلك الوقت ولا تزال بفتح مجالات الثقافة في الأجهزة الحكومية من إذاعة وتلفزيون، والعناية بجيل الشباب من خلال افتتاح أقسام لهذه الفئة في وزارة التراث والثقافة وجامعة السلطان قابوس والنادي الثقافي والمنتدى الأدبي وفرق المسارح الأهلية وجمعية الفنون التشكيلية والفرق الموسيقية ومنها الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية ومركز عمان للموسيقى التقليدية وكليات التربية والمكتبات العامة والمكتبات المتخصصة كمكتبة محمد بن أحمد البوسعيدي للمخطوطات ومكتبتي الإمام نور الدين السالمي والشيخ سالم بن حمد الحارثي بكنوزها التاريخية النادرة وعدد كبير آخر من المؤسسات التنموية والمدنية.
وعلى مدى فترة حكم جلالة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ جرت حركة تأسيس البنى الثقافية الأساسية للدولة كالمتاحف والنوادي الثقافية وتنشيط حركة التنقيب عن الآثار وحماية المباني التاريخية وتدشين معرض مسقط للكتاب وتأسيس مهرجان الشعر وإصدار مجلة (نزوى) التي هي بمثابة سفير العمانيين في الخارج وزادهم الثقافي في الداخل، كما استكملت السلطنة متطلبات العناية بالمشهد الثقافي من خلال سلسلة من التعاقدات الدولية للانضمام للاتفاقيات الثقافية ونيل عضوية المؤسسات الثقافية الدولية والإقليمية وعقد العشرات من الاتفاقيات الثقافية الثنائية مع الدول والتي ثمر تبادل المعارف والعلوم والأنشطة الثقافية والأدبية والفنية الراقية وقد كان لدولة الكويت نصيب كبير منها.
وفي الختام قال سعادة كامل سليمان العبدالجليل امين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت: إن التأثير العماني على المشهد الثقافي العام ليس بتأثير مصطنع، بل هو من صميم حياة الشخصية العمانية الفريدة الشغوفة بالتواصل والتعلم والاستفادة والإفادة، وهي حصيلة تراث وتاريخ عريق جداً موغل في القِدم استفادت منه المنطقة الخليجية والعربية والعالمية بفضل شغف العماني بالتراث والبيئة والثقافة والفنون والحرف المختلفة.
نصف قرن من البناء
ومن جمهورية مصر العربية يصف الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة المصري السابق وأحد قامات الثقافة العربية في كلمته التي شارك بها في هذا الموضوع، وعنونها بـ “السلطان قابوس.. ونصف قرن من البناء” يقول عن زيارته الأولى للسلطنة: في الأول من مايو ١٩٨٦، سافرت إلى السلطنة أستاذا مساعدا للتاريخ الحديث بجامعة السلطان قابوس، وهي الجامعة التي تعد نقطة تحول كبيرة في تاريخ النهضة العمانية، وقد شعرت منذ اللحظة الأولى أن ما يحدث في هذا البلد العريق هو ملحمة متواصلة كان التعليم أهم ركائزها، وكان إنشاء الجامعة هو حصاد تجربة شاقة لمدة ستة عشرة عاما .. كان لي شرف المشاركة في هذه التجربة الفريدة، حينما وعد جلالة السلطان الراحل شعبه بأن من حقه أن يجني ثمار جهده، وفي كل خطب جلالته وتصريحاته كان التعليم هو القضية الأهم باعتباره الاستثمار الحقيقي، وفي ظل هذا الخطاب التنويري المفعم بكل طاقات المحبة، كان إنشاء الجامعة بمثابة حلم لكل العمانيين، بدون تفرقة فالشرط الوحيد للالتحاق بالجامعة هو التفوق، دون استثناء لأحد.. فهكذا تحقق الحلم الكبير، لذا شعر العمانيون بأن كل آمالهم قد تجسدت في شخص هذا المصلح الكبير، الذي حمل المسئولية الوطنية لكي يعيش العمانيون في وطن ينعم بالاستقرار والرخاء. رأيت كل ذلك بنفسي وكان جلالته يطل علينا عبر شاشات التليفزيون مبشرا بمستقبل مشرق.
ويضيف الكتور محمد صابر عرب حول لقائه بجلالة السلطان الراحل: المشهد الذي لا يضيع أبدا من ذاكرتي حينما شرفت بلقاء جلالته مرتين: المرة الأولى، في شهر رمضان عقب وصولي إلى السلطنة ١٩٨٦، وقد كنت أسكن في الحرم الجامعي، وأخرج كل مساء للتريض، وكانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف مساء وشوارع الجامعة خالية إلا من سيارات تمر بين وقت وآخر، وبينما أنا في أحد شوارع الجامعة إذا بسيارة سوداء قد توقفت بجانبي ونظرت إلى قائدها فإذا هو جلالته ـ رحمه الله ـ شخصيا، يقود سيارته بنفسه متفقدا العمليات الإنشائية التي كانت تسبق افتتاح الجامعة. أخذتني الدهشة حينما توقفت السيارة بجانبي وقد نزل منها جلالته ومد يده مصافحا، وجرى حديث لعلني أتذكر بعض مفرداته . بادرني جلالته قائلا: أهلا وسهلا .. الأستاذ مصري؟ أجبت نعم يا صاحب الجلالة. سألني عن رأيي في الجامعة من حيث المنشآت والاستعداد للدراسة أجبت جلالته: جميعنا يشعر بالفخر لأننا نشارك في هذا المشروع العلمي الكبير . سألني جلالته عن تخصصي، وعما إذا كنت قد زرت مكتبة الجامعة؟ أجبته: نعم، زرت المكتبة . قال جلالته : مكتبة الجامعة يجب أن تكون معدة وجاهزة في اليوم الأول للدراسة وقد راعينا تنوع الكتب في كل المجالات وبكل اللغات.. أضاف جلالته: نحن واثقون في الأساتذة الذين تم اختيارهم بعناية. شكرت جلالته وعرض علي برقة متناهية أن يوصلني لمقر سكني، فشكرته قائلا أنا أمارس رياضتي المفضلة، فصافحني وركب سيارته وانصرف وأنا في ذهول مما شاهدت!
لم يفارق مخيلتي هذا المشهد طوال فترة إقامتي في السلطنة التي استمرت طوال ست سنوات، وقد ضاعفت من طاقتي في أداء مهمتي الآكاديمية تدريسا وتفاعلا مع المجتمع العماني.
اما المرة ثانية حينما كنت وزيرا للثقافة وقد رافقت شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في مايو 2013م في زيارته الأولى للسلطنة، وقد التقينا بجلالته بعد أن أبلغتنا المراسم بأن مدة الزيارة نصف ساعة، وكان اللقاء في بيت البركة وقد استقبلنا جلالته بترحاب ومحبة، وتناول الحديث قضايا كثيرة من قبيل الأوضاع المتردية في كثير من دول العالم الإسلامي، والعلاقات المصرية العمانية، وخصوصا خلال المقاطعة العربية لمصر، وقال جلالته “مصر أدرى بشؤونها ولا يصح لأحد أن يفرض عليها شروطا لا ترتضيها، لأنها هي التي ضحت وحاربت”، ثم مضى جلالته متحدثا عن التعليم باعتباره قضيته الأهم، مشيدا بدور المدرس المصري منذ بداية السبعينيات قائلا: “لقد شاركونا تعليم أبنائنا تحت الشجر وفي المساجد”، وأضاف جلالته حديثا مفعما بالمحبة عن مصر وعن دور الأزهر وثقافة الاعتدال والتسامح. وقد استغرق اللقاء ساعة ونصف بعد أن كان محددا له نصف ساعة فقط !.
وفي الختام قال الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة المصري الأسبق: لقد تأكدت بأنني أمام رجل ملهم في كل شئ، فلديه مشروع متكامل للتنمية بمعناها الثقافي والإنساني والعمراني. لقد أصبحت عمان بعد نصف قرن من البناء موضع تقدير العالم ليس بسبب سياستها المستقلة فقط ولكن بسبب نهضتها التي جنى ثمارها كل العمانيين إعمارا وثقافة وتعليما وتنمية.
رمز خليجي عربي إسلامي
اما الإعلامي القطري جابر الحرمي فيقول: فقدنا برحيل جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور رحمه الله وأسكنه فسيح جناته قائدا عظيما ورمزا خليجيا عربيا اسلاميا دوليا اتسم بالحكمة والاعتدال والاتزان شكل علامة فارقة ليس فقط في تاريخ عمان الشقيقة بل على مستوى العالم كقائد حكيم استطاع ان يبني عمان ويبعدها عن كل التجاذبات التي عصفت المنطقة طوال خمسة عقود من حكمه الذي سيظل عالقا ليس في ذاكرة أهل عمان فحسب بل في ذاكرة الأمة العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء.
ويضيف “الحرمي”: عزاؤنا ان القيادة في السلطنة ممثلة بجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم هي نموذج آخر من مدرسة السلطان الراحل العظيم تسير على النهج نفسه، واهل عمان ورجالاتها صمام أمان لمزيد من الامن والامان والاستقرار والتقدم والازدهار في عمان العزيزة.. رحم الله فقيد الأمة وحفظ السلطنة والسلطان وشعب عمان واللهم اجعل سلطانها خير خلف لخير سلف.
الفنان الإنسان
أما الكاتب الصحفي والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي فيقول: لم التق من قبل مع جلالة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله وجها لوجه، ولكني شاهدته وعرفته من خلال وجوه المئات من أهالي السلطنة، وجدت تلك الوجوه تفيض حبا وعطاء وشهامة وثقافة وكرما وشعرت بعدها أنني اعرف هذا الرجل الذي عاش سلطانا ولكنه في الحقيقة كان راعيا لشعبه بل ولكل الأمة العربية، ستجد له بصمة واضحة وعميقة بل وملهمة في كل ما شاهدته أو كابدته أمتنا العربية سواء في لحظات الانتصار أو الانكسار!!.
ويضيف “الشناوي” : كان السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ يجيد دائما قراءة الزمن القادم بكل مفرداته وأبعاده، لا تسرقه اللحظة، يرفض أن يُصبح هو رد الفعل لأي موقف عابر ولكن دائما هو صاحب الفعل، يتأني قبل اتخاذ أي قرار، ولهذا تأتي دائما رؤيته صادقة فهي تمزج بين العقل والقلب، ولا يورط مقدرات الوطن في أي خلاف عابر مهما بلغت الضغوط، فهو يملك نظرة إستراتيجية للقادم من الأيام، ولهذا مثلا في عز مقاطعة العالم العربي لمصر بعد توقيع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد رفض السلطان قابوس رحمه الله، وكان وقتها في بداية العقد الرابع من عمره أن يشارك في أي تحالف لحصار مصر، ثم لعب دورا دبلوماسيا مشهودا في عودة اللحمة العربية، وعاد العرب لمصر وعادت مصر للعرب.
ويؤكد الناقد السينمائي طارق الشناوي: أن السلطان الرجل السياسي لا تخلو مسيرته العطرة أيضا من لمحات ثقافية وفنية، فهو يتذوق الإبداع الفني وهكذا أنشأ أول دار أوبرا في دول الخليج لتضاهي كُبريات دور الأوبرا في العالم وبعدها رأينا أكثر من دولة تسعي لملاحقة الخطوة العُمانية فكل من عرفه من رجال الفن ومبدعيه روى جانبا من تذوقه الرفيع للفنون وخاصة الموسيقى، وهو ما كان يذكره دائما لي الموسيقار الشيخ سيد مكاوي وهو ما تكرر مع عمار الشريعي ونصير شمة وغيرهم فهو بالسليقة أيضا يملك روح الفنان.
وفي الختام قال الكاتب الصحفي والناقد السينمائي طارق الشناوي : سوف تواصل سلطنة عمان العطاء فهذا البلد العظيم عبر التاريخ له نفحاته الخاصة،(جينات) أبنائه لا تعرف سوى الخير والحق والجمال، وتحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ، ستتواصل مسيرة هذا البلد الطيب وشعبه العريق، وستظل روح السلطان قابوس تعيش في وجدان هذا الشعب العريق الطيب ـ حماه الله ـ وستظل السيرة العطرة للسلطان قابوس طيب الله ثراه ومنهجه ومواقفه هي دائما العمق الاستراتيجي الذي يمنح سلطنة عمان كل هذا الفيض من الحب في قلوبنا جميعا.
العبرة بالعمل لا بالشعارات
ومن الجمهورية الجزائرية يعلّق الكاتب والإعلامي والناشط الثقافي عبدالرزاق بوكبة حول المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه ـ : عشت كل حياتي في ظل وجود الراحل قابوس سلطانا لعُمان .. وباكرا انتبهت إلى تميزه بالمقارنة مع الحكام العرب من رحل منهم ومن بقي. فالرجل لا يظهر كثيرا ولا يتهافت على القمم والمنابر والمجالس والمنتديات، وفي الوقت نفسه هو حاضر بقوة في الأحاديث والأحداث. لقد علمني أن ثمة فرقا بين إنسان يصنع الضوء وآخر يصنعه الضوء.
ويضيف عبدالرزاق بوكبة: إلى أية عبقرية يحتاج إنسان ليحول بلدا هامشيا إلى بلد فاعل يُستشار ويُلجأ إليه في المحن الكبرى؟ بلدٍ لا يعتدي على الآخرين ولا يعتدون عليه، رغم وجود دوافع ذلك في أكثر من مرة؟ بلد انتقل من مظاهر البداوة إلى مظاهرة الحضارة، حيث كانت النظارات فيه محرمةً، فصار ناظرا ومنظورا إليه، في القارات الخمس.. إنه ليس سهلا أن تحيي أمجاد امبراطورية عمان، بعد قطيعة مع هذه الأمجاد، فتباشر نهضة ثقافية وفكرية وجمالية تقوم على قيم السلام، حيث يصير بلدك في العالم الثالث شبيها بحضور سوسيرا في العالم المتقدم.
ويختتم الكاتب الجزائري عبدالرزاق بوكبة كلمته بالقول : علينا أن ننتبه إلى حقيقة مسكوت عنها هي أن مجيء السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ إلى الحكم في بلاده تزامن مع مجيء نخبة من الحكام العرب إلى حكم بلدانهم. فبقي هو في الظل وغرقوا هم في أضواء الشعارات والوعود. والنتيجة بعد نصف قرن أن كل تلك الدول باتت غارقة في التأخر والمشاكل، فيما ارتقت سلطنة عمان إلى مصاف الدول المرتاحة. لقد أعطانا درسا مفاده أن العبرة بالعمل لا بالشعارات.
حكمة الربان وشجاعته
ومن الجزائر ايضا يقول الكاتب والروائي سالمي ناصر: أنعم الله على دول بالنفط، فكان السبب في نهضتها وتطورها، وأنعم الله على عمان بسلطان أحبها، وأخلص لها العمل، فكان ثروتها، والسر في تألقها ورقيها. فقلما تحظى دولة من الدول بقائد له حكمة الربان وشجاعته ونفاذ بصيرته، ربان استطاع أن يقود بلاده خمسين عاما وسط عواصف السياسة وأعاصيرها، ولم يترجل عن السفينة إلا وقد رسا بها في بر الأمان، وأورثها جيلا اغترف من نبع محبته وحكمته.
آثارٌ خالدة في ساحات الأقصى
ومن دولة فلسطين يشارك الشاعر والمذيع الفلسطيني مصطفى مطر بكلمة تؤبن السلطان الراحل طيّب الله ثراه فيقول : ليس الشعبُ العُماني وحده من خسر برحيل السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ عليه رحمة الله ـ، فخسارة الشعب الفلسطيني برحيله كانت فادحة، فكما تجدُ في نفوسِ العُمانيين غصة رحيلٍ وفراق، فإن صدًى لهذه الغصة يتردد في صدر القضية الفلسطينية، التي ناصرها وآزرها جلالة السلطان الراحل طيب الله ثراه بكل قوة، وأيدها ودعمها عملًا لا قولًا فحسب، وعززت قولَه المواقفُ المُشرِفةُ التي تُدوِنُها سِجلاتُ الشرفِ باسمِهِ وباسمِ الشعب العُماني بأكمله.
وأضاف الشاعر مصطفى مطر : لطالما كانت فلسطينُ حاضرةً في خطاباتِ السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ، حتى في خطاباتِ احتفالِ بلاده في عيدها الوطني، لم يكن ينسَ فلسطينَ وقضيةَ أهلِها العادلة، ومن مواقفِهِ التي تبقى شاهِدةً على صلابةِ موقفِهِ ودفاعِهِ عن فلسطين، قولُهُ في عيدِ عمان الوطنيِ عام ألفٍ وتسعِمِائة وثلاثة وسبعين “إننا نقف ضد العدوان الصهيوني ونؤيد الحق العربي في استعادة جميع الأراضي العربية التي اغتصبها العدو بالقوة والغدر والإرهاب وسنبقى دائما مؤيدين للحق العربي وندعمه بالدم والمال ونسانده بكل طاقتنا حتى يعود الحق إلى نصابه وترتفع أعلام النصر”.. وعن رؤيته للسلامِ سطر عباراتٍ خالدةً قالها فيها إنه لا يؤمن بسلام الضعفاء وإنما سلام الأقوياء الذين يكونون على قدر المواقف ويعدون للأمة عدته.
واختتم الشاعر والمذيع الفلسطيني مصطفى مطر كلمته بالقول : لقد فقدت القضيةُ الفلسطينية علَمًا من أعلامِها، وجبلًا شاهقًا تشهدُ له مواقفُهُ ومآثرُه، وليس آخرها يومَ أعلن ترمب القدس عاصمةً لما تُسمَى “إسرائيل” بعدها بوقتٍ قصير زار القدس المحتلة معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، ورفض الدخول من البوابات الإسرائيلية المخصصة لكبار الزوار وفضل الدخول من الحواجز التي يدخل منها الفلسطينيون استشعارًا لذات المعاناة، وبين يديه كان يحملُ، اللبان العُماني، وتجول بها في ساحات المسجد الأقصى لتُبقِيَ أثرًا من روح قابوس الطيبة، حاضرةً في أولى القبلتين.
القائد الملهم
ومن المملكة المغربية الشقيقة يقدم الروائي مصطفى الحمداوي الوكيلي كلمته في هذا السياق حيث يقول: لفهم المقاربة الناجحة التي أدار بها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه ـ سياسة بلده الداخلية والخارجية، لا بد من أن نطلع على هذا التصريح الذي أدلى به، وهو تصريح يبين مدى عمق الاطلاع الواسع لهذا القائد العظيم على المعارف والعلوم والثقافات، وبهذا الصدد قال ذات مرة: “كان إصرار والدي على دراسة ديني وتاريخي وثقافة بلدي له عظيم الأثر في توسيع مداركي ووعيي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية عموما، وكذلك استفدتُ من التعليم الغربي وخضعتُ لحياة الجندية، وأخيراً كانت لدي الفرصة للاستفادة من قراءة الأفكار السياسية والفلسفية من مفكري العالم المشهورين”. إن مثل هذا الكلام يعبر عن عمق التجربة التي راكمها القائد الكبير السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ قبل وخلال توليه الحكم، والقائد العظيم جلالة السلطان الراحل، بجمعه لكل هذه المعارف التي راكمها من مصادر ذات مصداقية وسمعة عالية، أسس لنفسه ولسلطنة عمان، مدرسة خاصة في الحكم، وقد تكون هذه المدرسة فريدة من نوعها على المستوى العالمي، ولا شك في أن المتتبع لمسار الشأن العماني سواء الداخلي أو الخارجي، سيقف عند خصوصيات تتجلى أساسا في الانكباب أولا على تنمية الداخل، وبناء الانسان معرفيا وعلميا، وتأسيس بنية تحتية تنموية تتفوق على دول ذات دخل بترولي أكثر بكثير من سلطنة عمان، وهنا تتجلى النظرة الحكيمة للقائد الملهم المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ في حسن تدبير مقدرات البلد، وإحداث طفرة تنموية هائلة يشهد بها الجميع.
ويضيف “الحمداوي” : تميزت السياسة الخارجية لسلطنة عمان، بفضل الرؤية السديدة للمغفور له بإذن الله تعالى، في شكل مختلف ومتفرد في التعاطي مع الأزمات الاقليمية والدولية، وأسس لسياسة بلده الخارجية نسقاً يبتعد عن المزايدات والتدخل في شؤون الدول الأخرى، كما أن المرحوم تغمده الله برحمته الواسعة، لم يسمح مطلقاً لدول الجوار في محاولة التأثير على القرار السيادي لهذه الدولة القوية بتلاحم شعبها وقيادتها.. لقد كان المغفور له رجل دولة من الحكام العظماء الذين عرفهم التاريخ المعاصر، ولا نقول هذا فقط للمجاملة، ولكن هي الحقيقة التي تحدثت عنها كبريات الصحف ووكالات الأنباء العالمية.. لقد كان رحمه الله قائدا فذا مارس الحكم برؤية وبمشروع تأسيس دولة تزاوج بين ما هو حداثي، وما هو أصيل نابع من الثقافة والتاريخ المجيد لدولة عمان، رحم الله الفقيد وأسكنه واسع جنانه.
واختتم الروائي مصطفى الحمداوي الوكيلي كلمته بالقول : عزاء أهلنا في السلطنة أن الثوابت التي رسخ لها القائد العظيم ستظل حية، وستثمر على الدوام.. وستعطي أكلها في كل حين وآن.
استعادة التاريخ في ذكراه
ومن المملكة الأردنية الشقيقة يقول الكاتب والباحث الأردني محمود الزيودي (السيناريست وكاتب المسلسلات البدوية الشهيرة): جميع القادة العظام اتكأوا على تاريخ مشرف لأوطانهم، وقد ساهم ذلك الإرث التاريخي بمساعدة السلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله رحمة واسعة) في تلك النقلة الحضارية لشعب عمان خلال اعوام قليلة من توليه الحكم عام 1970 … لا بد من بعض الإضاءات على تاريخ عمان الذي كان ملهما للراحل بإيمانه بدينه ووطنه …كانت سلطنة عمان تمتد على كل ساحل الخليج العربي … وكانت زراعة القرنفل وتصديره من زنجبار من أهم صادرات السلطنة العربية وكان الاسطول العربي العماني يبحر من افريقيا ويصل الى أميركا . فيما كان طريقه الثاني إلى الهند ودول الشرق الاقصى .. وليس بعيدا عن الذاكرة البحار العربي العماني الأميرال (كما سماه البرتغاليون) أحمد بن ماجد الذي استعان به البرتغالي فاسكودي جاما للإبحار الى الهند .. كان البرتغاليون يتسابقون مع الهولنديين والإنجليز لاستعمار الشرق الأقصى الغني بالتوابل والبهارات.. وكان الأسطول العماني سيد البحر في تلك الفترة .. في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي . حاصر البرتغاليون مسقط التي كانت تقف سدا منيعا بوجه تجارتهم… في المرويات التاريخية ان الحصار طال حتى بدأت المدفعية العمانية تفقد ذخيرتها من القنابل … وهي بذلك الزمن كرات معدنية… تضرب السفن ولا تنفجر كما هو حال القنابل الحديثه … تصدت السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد للمشكلة الحرجة … قدمت كل صيغتها من الفضة والذهب للجيش وحثت النساء العمانيات أن يفعلن مثلها . ذاب الذهب والفضة وسكب قنابل للمدافع العمانية، فضربت الاسطول وانفك الحصار عن مسقط .. وهكذا تكرر اسم موزة لمواليد الخليج العربي من النساء زمنا طويلا .كان يمكن لموزة بنت الإمام أحمد بن سعيد أن تتصدر التاريخ كما هو حال نساء عظيمات في الغرب .. ولكن العرب كانوا ولا زالوا يهتمون بالذكور دون الإناث.
ويضيف السيناريست وكاتب المسلسلات الأردني محمود الزيودي: في عهد السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ أنتج أول مسلسل تلفزيوني عماني عن البحار ابن ماجد .. وهي خطوة حضارية من تلك الخطوات التي خطاها السلطان الراحل بتأن وثبات لتلحق سلطنة عمان بالقطار المتسارع للحضارة الانسانية في القرن العشرين .. وقد تلا مسلسل ابن ماجد أفلام ومسلسلات كثيرة .. أثبتت ان الانسان العماني فنان ومبدع كما هو رجل بناء وعلوم … حيث استفاد السلطان الراحل من دراسته في كلية ساندهيرست البريطانية (تخرج منها برتبة ملازم ثان) والدورات التخصصية في شؤون الإدارة وتنظيم الدولة، وجولاته حول العالم قبل أن يتبوأ عرش السلطنة حيث استفاد خبرة جعلته ينقل عمان من مجتمع بدوي شبه قروي الى دولة تخطب ودها الدول العربية والأجنبية للوساطات السياسية وحل الخلافات بين الدول.
ويختتم السيناريست وكاتب المسلسلات الأردني محمود الزيودي كلمته بالقول : هو واحد من قلة قليلة من زعماء دول العالم الثالث الذين طبقوا برنامجهم السياسي إلى مشاريع تنمية وطنية. برمجها السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ الى خطط خمسية في برنامج زمني لمدة خمس سنوات كان يتابعها بنفسه … ولم يزل أرشيف الاعلام زاخرا بصور جلساته فوق الرمال (على الطريقة العمانية) وهو يتحدث الى مواطنيه بلهجتهم ليوصل أفكاره لتنفيذ تلك الخطط التي نقلت الشعب العماني الى القرن الواحد والعشرين بكل اقتدار … ويسجل له بمداد الذهب سياسته الخارجية المبنية على حسن الجوار مع جيرانه وأشقائه وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية وإقامة علاقات ودية مع سائر دول العالم .. رحم الله السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور الذي بدأ حكمه لعمان وهي في حجم شتلة السمر وغادرها وهي بحجم الدنيا . وجزاه الله عن العمانيين خير الجزاء.
المصدر: اخبار جريدة الوطن