خميس التوبي
الضبطية المُنْتَهِكة لقانون حماية المستهلك والمُخالِفة لأخلاقيات السوق التي قامت بها مؤخرًا الهيئة العامة لحماية المستهلك والمتمثلة في تخزين أرز منتهي الصلاحية وتغيير تواريخ الإنتاج والانتهاء، وما رافقها من صور وقرائن وأدلة، وما فاض على قدرة الوعي الوطني، كانت كافية لرسم صورة بكائية للمشهد، حيث باتت الدعوة للتشهير بمثابة حالة يقظة ومحاكمة على الهواء مباشرة، استبقت حقيقة ما يجري، في محاولة أراد مطلقوها التخفيف من حجم الوجع، دون الأخذ في الاعتبار أن هذا الوجع أصبح مزمنًا وبحاجة لحالة استعداد وطني وشعبي تدفع باتجاه إعانة صانع القرار ومتخذه نحو معالجة جذرية حقيقية.
الدعوة إلى التشهير قد تكون في الفعل والنتيجة أسلوبًا أقرب إلى الصمت المُعبِّر عن الموافقة الصريحة وحتى الضمنية، ذلك أنها لا تمثل إلا ردة فعل وقتية سرعان ما تخبو، وكأن شيئًا لم يحدث، فكما هو معروف أن الفضفضة والبوح من وسائل تخفيف الاحتقان وامتصاص الغضب؛ ولذلك الآن غَدَا موضوع الضبطية طَيَّ النسيان وذهب مع الريح بالنسبة لقائدي دفة وسائل التواصل الاجتماعي، بانتظار فاجعة أخرى يستيقظ عليها الناس ليعتلوا مجددًا صهوة تلك الوسائل.
ولذلك حين نقول إن الصمت خيانة تجاه القضايا الوطنية، إنما نعني بذلك عدم ممارسة حقوقنا التي كفلها لنا رائد الفكر الحر وقائد مسيرة نهضتنا المباركة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وذلك بإبداء الآراء وتعدد الأفكار عبر قنواتها الشرعية والرسمية التي كفلتها النهضة المباركة والنظام الأساسي للدولة؛ فالمسارعة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من القنوات الشرعية الرسمية لن تقدم حلولًا بقدر ما تثير الامتعاض، وتؤجج المشاعر الملتهبة، وتعزف على وتر أوجاع الناس التي بدأت تتكاثر وتأخذ مأخذها. قد يقول قائل إن ثقتنا في هذه المؤسسات مهزوزة أو إنها ليس بمقدورها ـ وقد جربناها ـ أن تفعل شيئًا أو تقدم حلولًا لصالح الوطن بالنظر إلى تغلغل جذور المتحكمين في السوق والذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ولكن التوجه إليها بدايةً هو أسلوب حضاري يعبِّر عن الوعي والرقي في التعامل، ومن ثم إلقاء الحجة على هذه المؤسسات إن لم تقم بما يتوجب عليها من مسؤوليات، وبالتالي عليها تحمل تبعات إخفاقاتها.
لقد كانت لافتةً حالة التذمر والامتعاض وبلوغها حدًّا لا يطاق لدى قطاع عريض من مستخدمي الطريق من الرادارات الموضوعة على الطريق، فيما أهمل المتذمرون والممتعضون ما هو أهم وأعمق. فإذا كانت الرقابة المكثفة على الطريق فيها “سلب” للمال وعلى الهواء مباشرة ـ إن جاز التعبير وحسب الفهم لدى الممتعضين والمتذمرين ـ فإن هناك من يسلب المال والصحة معًا وبأساليب تحايل ومخادعة وفي الخفاء، وفي وضع الطرق يمكن لمستخدمها أن يتدارك عملية “السلب” بالتزامه السرعة المحددة وبأنظمة المرور ـ مع أنها في النهاية تكون لصالحه ـ لكن في قضايا الغش في الأطعمة التي تتعلق بالصحة والمرض والحياة والموت لا يمكن للمستهلك أن يتدارك عملية سلب صحته وحياته وأمواله خاصة وأنها تتم في الخفاء في جانب كبير منها.
قد يكون من الصعب استدراج كل التفاصيل كي تطفو على سطح أي محاكاة من دون وعي ذاتي وطني يكون ركيزة لوعي أعمق يستنهض جذر هموم الوطن والمواطن، غير أن مما توافر يبدو جليًّا في ترتيبه الإدانة لجرائم ترتكب صباح مساء، سرًّا وعلانية وعن سبق إصرار وترصد، ذلك أن الاقتصاد أو بالأحرى السوق قائم على أكتاف طغمة منتفعة ومتحكمة فيه، تحولت مع الزمن إلى قطط سمان، وضربت بجذورها عميقًا في الاقتصاد فتحكمت بالسوق احتكارًا، وتلاعبًا بالأسعار ارتفاعًا وانخفاضًا، وبتحكمها قضت على أي فرص حقيقية للاستثمار، لماذا؟ لأنها لا تريد أحدًا أن ينافسها فيما احتكرته لنفسها. فالاقتصاد ـ كما هو معروف ومعلوم ـ أنه يقوم على الحرية والتعدد اللذين يحققان الاستثمار وتسهيل قوانينه وإجراءاته، وبهذه الحرية والتعدد ينمو ويقوى وينعكس نموه في قدرة البلاد على مواجهة الأزمات، كالأزمة الحالية لأسعار النفط. ومما هو لافت حيال ذلك أنه في الوقت الذي يقدم فيه المواطن التضحيات استجابةً ووقوفًا مع الحكومة لتجاوزها الأزمة، تدس قطط سمان تضخمت خزائنها وجيوبها من خيرات هذا الوطن أنوفها في الرمال، بل من المؤكد أن لديها أرصدةً هائلةً وقصورًا في الخارج للهروب من الاستحقاقات والواجبات الوطنية التي يجب أن تظهر ساعة العسرة، ودون شك حين نعرج على ذلك، نرفض مبدأ التعميم، فنقول إلا ما رحم ربنا. وفي وضع كسلعة الأرز التي ـ حسب الفهم العام ـ لها وكيل واحد معتمد، وممنوع أن ينافسه فيها أحد غيره، فهل يستدعي ذلك ممارسة وسائل الغش وأساليب غير أخلاقية تمس بصحة المستهلك وبحياته؟ ولماذا يمارس هذا الغشاش والمتلاعب ذلك؟ هل عملًا وتأكيدًا بأن “من أمن العقوبة أساء الأدب”؟ أم لديه مآرب أخرى يريد أن يُدخل البلاد في أتون المزيد من الأزمات والاحتقانات ليصطاد في الماء العكر؟
إذًا الصمت خيانة، وبات من الواجب الوقوف إلى جانب صانع القرار وربان سفينة الوطن الذي أعلى رايته وراية المواطن، وجعل مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، فاللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لم ولن يحل أزمة أو قضية بقدر ما ينشر غسيلًا يفترض أن لا يراه غير أصحابه. فهناك من يتمنى أن يصحو في الصباح وقد ابتلع بحر عُمان الهيئة العامة لحماية المستهلك، ليس لأنها فضحته وكشفت تلاعبه واستهانته بالوطن والمواطن فحسب، وإنما لأنها منعته من مواصلة أخلاقياته الدنيئة بحق هذا الوطن وقائده وشعبه. إن الهيئة العامة لحماية المستهلك اقترن اسمها بالمستهلك وحمايته، ومتى ما مُسَّ بهذه الهيئة فهذا يعني أن لا قيمة للإنسان ولا كرامة له لدى من يعمل أو سيعمل على القضاء عليها أو تهميش أدوارها ومهامها ومسؤولياتها التي يفترض أن توسع، والأيام كفيلة بكشف حقائق كثيرة. والسؤال الذي يجب أن يكون حاضرًا في ذهن ووعي كل غيور على هذا الوطن هو: ماذا لو لم تنشأ الهيئة العامة لحماية المستهلك؟ وكم أعداد ضحايا الغش والتحايل والابتزاز والاحتكار ساعتئذٍ، من حيث سلب المال والصحة والحياة؟