خميس التوبي
بتصويت مجلس الأمن الدولي على القرار رقم 2231 بالموافقة على الاتفاق النووي الذي أبرمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمجموعة الدولية المعروفة بـ(5 + 1)، يكون الطرفان بذلك قد دخلا فعليًّا مرحلة تنفيذ بنود الاتفاق، وهي مرحلة يمكن وصفها بأنها مرحلة تكسير عظم بين الطرفين بالنظر إلى أهمية احترام مبدأ الالتزام والتمسك بالمصداقية، ومحاولة تسجيل النقاط على الآخر، لا سيما وأن النواعق لا تزال ترسل نعيق شؤمها وحقدها، وتبحث عن كل ما من شأنه التأثير أو التعطيل لهذا الاتفاق، خاصة بعد أن وصلت القوى الغربية إلى قناعة بأن القوة الخشنة وتجييش الجيوش وحشد البوارج الحربية وحاملات الطائرات في المنطقة ومياهها الإقليمية، وسياسة العقوبات الاقتصادية الصارمة على إيران ثبت أنهما ليستا ذواتي مفعولين كبيرين، ترجمتهما الصراحة الأميركية بأن إيران بدون اتفاق نووي أخطر من مع اتفاق يحجم برنامجها النووي ويخضع تحت المراقبة المستمرة.
الاتفاق جاء ثمرة صبر ومثابرة وصمود من قبل الشعب الإيراني وقيادته، وحاجة غربية ملحة لتبديل وسائل المواجهة من الأسلوب الخشن والحرب النفسية إلى الأسلوب الناعم الذي يفتح بوابات الاقتصاد والاستثمار، ومثلما يعد الاتفاق في نظر الإيرانيين نصرًا كبيرًا للاعتراف بحقهما في امتلاك التكنولوجيا النووية، ودخول نادي الكبار والاعتراف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية قوة عسكرية واقتصادية وثقافية وبشرية مؤثرة في محيطها الإقليمي والوسط الدولي، فإن الاتفاق يعد في نظر الغربيين بمثابة مفتاح أو كلمة السر لفتح الخزانة الإيرانية والتعرف عليها وعلى ملفاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية والأمنية من كثب. إلا أن الاتفاق منذ متوالية مراحله الماراثونية وفي كينونته ومضمونه، كشف عن حقائق وسيكشف عن أخرى:
أولًا: إن طهران لم تقبل الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة حول برنامجها النووي إلا بعد أن نجحت في بناء منظومة مفاعلاتها النووية وفي الاعتماد على ثمار البناء للإنسان الإيراني الذي ظلت ترتكز عليه ارتكازًا حقيقيًّا، فلم تفكر في الحجر قبل البشر، بل إنها تفاخر اليوم بإرغام خصومها على الاعتراف بحقوقها وبمكانتها بالعقول العلمية والنووية التي أوصلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى هذا المستوى، في حين راح العرب أو بعض الأعراب يتطاولون في البنيان، ويتباهون بـ”جهاد النكاح” مع “داعش” و”النصرة”، وباغتصاب الحرائر، وببقر البطون، وشق الصدور وأكل الأكباد وإعادة مآثم الجاهلية الأولى أو أشد منها. والمضحك المبكي أنهم وفي ذروة نشوة مباهاتهم بالبهيمية وإشباع الجسد جنسيًّا وماديًّا، يتباكون على إشباع إيران العقول بالعلوم والارتقاء بها، وتمسكها بثوابتها الوطنية، وعدم مساومتها على أمنها القومي، فسخروا ثروات أوطانهم وشعوبهم وقدموها في صورة استثمارات وصفقات سلاح لا فائدة مرجوة منه ظنًّا منهم أنه سيوقف القاطرة الإيرانية المنطلقة بأقصى سرعتها كما صورت لهم طواغيتهم، لكي يواصلوا “جهاد النكاح”، واختطاف الجميلات الفاتنات في بلاد الشام والعراق وتونس وليبيا والمغرب واليمن ومصر.
ثانيًا: إن الولايات المتحدة ومن معها من القوى الغربية حين سعت إلى مفاوضة إيران كان لديها همَّان كبيران جدًّا: أولهما المصالح الغربية في المنطقة، وثانيهما أمن كيان الاحتلال الصهيوني وبقاؤه محصنًا من أي أخطار، وقد وصلت إلى قناعة تامة بأن إيران وفي ظل ضراوة الحرب النفسية وحشد العسكر والبوارج وحاملات الطائرات، وقسوة العقوبات الاقتصادية أخذت تعلن بين الفينة والأخرى عن إنجاز نووي لا سيما من حيث رفع أعداد أجهزة الطرد ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم، وعن صاروخ متطور يدخل الخدمة مجددًا، بل الإعلان الأكبر هو غزو الجمهورية الإسلامية الإيرانية الفضاء وفي عز هذه الظروف، فلم يفصلها عن امتلاكها السلاح النووي إلا قليل من الوقت. كما أن الولايات المتحدة والقوى الغربية لم تقرر الدخول في مفاوضات نووية مع إيران، إلا بعد أن باتت مطمئنة إلى أن “فوضاها الخلاقة” قد حققت نتائجها، فلم يكن “جهاد النكاح” وشيوخه، و”داعش والنصرة والجيش الحر والجبهة الإسلامية وجيش الإسلام وجيش الفتح وأحرار الشام و…” وشيوخها وممولوها وداعموها وما تتكئ عليه من إرث فكري هدام ومدمر، وكذلك الفرز الطائفي والمذهبي وتكفير طوائف ومذاهب وتفسيقها وإخراجها عن الملة، كل ذلك لم يكن إلا إحدى أبرز صور نجاح “الفوضى الخلاقة”. وعليه لن تقوم قائمة للمنطقة في ظل الاصطفاف الطائفي والمذهبي القائم، ما سيؤثر على محور المقاومة تحديدًا الممتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان ثم فلسطين المحتلة.
ثالثًا: الابتزاز والاستغباء الواضحان اللذان قام بهما السمسار الفرنسي الذي نجح في تقديم نفسه على أنه فرس الرهان لدى أصحاب البترودولار؛ إما في تخريب الاتفاق بين طهران والمجموعة الدولية، أو أضعف الإيمان ابتزاز طهران في المفاوضات، وذلك بعد أن قبض عشرات مليارات الدولارات في صور استثمارات وصفقات تسلح. وها هو السمسار الفرنسي نفسه بعد توقيع الاتفاق كان أول المعلنين عن جولات مكوكية فرنسية إلى إيران ذات طبيعة اقتصادية في النفط والغاز وغيرها. إنها سمسرة على أصولها، واستغباء على أصوله.
رابعًا: ما يصدره كيان الاحتلال الصهيوني من نعيق ونهيق ضد الاتفاق النووي لدرجة اعتباره أنه ضرب علاقات التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، ليس له من الواقع شيء؛ لأن الولايات المتحدة والقوى الغربية المتحالفة معها ـ كما قلنا ـ لم تسعَ إلى التفاوض مع طهران حول برنامجها النووي إلا من أجل مصالحها ومصالح حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني. كما أنه لا يعقل ولن يتأتى أن من أقام هذا الكيان الاحتلالي الغاصب على أرض فلسطين ومكَّن له أسباب القوة، ويدمر المنطقة حاليًّا بالإرهاب وبالفوضى، محاولًا إعادة رسم خريطتها لصالح هذا الكيان الغاصب أن يتخلى عنه، أو أن يبني اتفاقًا لا يراعي مصالح كيان الاحتلال الصهيوني وأمنه. ولذلك كل ما يفتعله هذا الكيان الاحتلالي من معارضات، ويصدره من ضجيج ونعيق ونهيق هو لأمرين: الأول: توحيد الجبهة الداخلية التي معروف عنها أنها جبهة هشة متصدعة، ولم يرقع صدعها سوى الحروب العدوانية أو افتعال أزمة مع الخارج؛ فالأحزاب المعارضة لحكومة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو أصبحت مواقفها متطابقة مع أقطاب الحكومة بعد الاتفاق النووي. الثاني: ابتزاز واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي للحصول على مساعدات عسكرية واقتصادية بذريعة تعزيز القدرات الأمنية الإسرائيلية في مواجهة المخاطر الأمنية التي ينطوي عليها اتفاق فيينا بالنسبة لكيان الاحتلال الصهيوني”، ولعل ما يؤكد ذلك إعلان زعيم المعارضة الإسرائيلية هيرتسوج بأنه سيتوجه إلى واشنطن لـ”المطالبة بتوفير مظلة أمنية “لإسرائيل”، وبلورة رزمة إجراءات دراماتيكية من أجل الدفاع عن “إسرائيل”، في إثر توقيع اتفاق فيينا حول البرنامج النووي الإيراني”. وأكبر ابتزاز يريد تحقيقه كيان الاحتلال الصهيوني هو احتلال هضبة الجولان السوري بالكامل مقابل الاتفاق النووي مع إيران، حيث قال وزير الأمن الداخلي “الإسرائيلي” يغال أردان “إن قبول “السيادة الإسرائيلية” على هضبة الجولان يجب أن يكون إحدى النتائج التي يتمخض عنها الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” في حال أجاز الكونجرس الاتفاق”.
خامسًا: ستكون إيران أمام واقع جديد بمباشرة الشركات الأميركية والأوروبية، وكذلك السفارات التي من المؤكد أنها ستكون ذات وظيفة مزدوجة الاستثمار والتجسس، ما يجعل الأرض الإيرانية ميدانًا واسعًا أمام الغرب الذي يتطلع إلى نقل معركته إلى العمق الإيراني بالقوة الناعمة عبر الكنتاكي، وبرجر كنج، والماكدونالدز، والاستثمار في مصادر الطاقة وغيرها من المجالات.