عند عتبة العيد، وبعد يوم ضَنك شديد الحر والضيق، جلس أبو محمد سعيد، بجذور أصوله وفروعه اليمانية كأنه ينسل اليوم من اليمن السعيد، جلس أمام كوخه المبني من الصفيح والأغصان في مخيم من مخيمات النزوح العربي ساقته إليه الحرب الضروس وأقارها التي لا ترحم ولا “تُفْهَم” ولا يُنْتَظَر لها انفراجٌ أو انتهاء.. جلس بعد يوم صيام شاق، ينظر إلى زوجه وأولاده وبناته المكومين في داخل الكوخ كحطب الدُّفْلى.. تذكر داره في أرض من أرض العرب هاجر إليها أجداده في قديم الزمان، وتهادت أمامه صورٌ منها هي عرائسُ ذِكَر.. فهبَّت ناره وزاد ضرامها، ولاجت دمعته في العين فأنف أن يذرفها “أو يبكي الرجال”؟!.. فقدر الرجال حمل الأثقال.. لكن حِمل أبي سعيد ثقيل، والذكريات يضغطن ويجرحن والحنين يزيد.. فاشتدت عليه محنتُه في ملجئه وتسربت سعيرا في قلبه، فتوتر منه الوتين كأنه وتَرُ رَبابة، وغدت روحه شفرة حادة وقوسا يحن إلى الوَتَر.. قال بصوت مضمخ بالدمع:
يا دَارْ قَلبي دَايم الدُّوم يطريجْ
وإن بِتّ أشوفج بالهواجيس يا دار
يا ما حَلى النُّومة بِفَيِّة علاليجْ
ووجْها يزيح الليل ويضويها لِقْمَار
ويا ما حَلى يا دار دَقَّ المَهابيجْ
والبُن يرْهي والفناجين تِندار
ويا ما حَلى رَبْعا تَراهم دَراريجْ
والراس يعلا بيجْ والفَلَك سَيَّار
يا عِزّنا يا دارْ رُوحي فِدا لِيْج
في غربتي أَحْدِيج والدَّمع حَدَّار
غَدْر الدَّهر يا دارْ شَتَّتْ ذَراريج
بَكَّى حَمامج والوِلْد وانهدَّت أسوار
وين الذَّراري، ووينَها فرحتي بيجْ
يومَن تلاقيني أحجارك بالأشعار
يومَن حَبيب القلب يطرَب ويناغيجْ
ويُكتُم حنين الرُّوح والعَواطف نار
ألْفِي عليج بِعز والعِز ناديجْ
كيف أَن جَفاج العِز وتْيتَّم صغار؟!
كيفَ أَن جَفاج العِزّْ، وانقَفَلْ ناديجْ
كيف الذّهب ينداس..؟! بُو الدَّهر غَدَّار
في غُرْبتي باقُوجْ، وانهدّ بانيجْ
ما أقدر أشوفج خَرْبَةَ العِز وانثار
ما غُرْبَتي يا دارْ مِنْ ضيقةٍ بيجْ
ولا طَمْعَة.. والله يعلَم بالأسرار
طولُ العُمر كَدِّيت، تَجْزيني واجزيجْ
وما شِيْمتي التَّقصير، وإن طالت أعمار
بِلَحمي أَني والدّم افْدَاوي وافاديجْ
لكنَّ.. حكمَ الله عَ العبد قَهَّار
لا تِعتبي يا دارْ، ولا يَشمَتْ أعاديج
حِنَّا القَدَر يا دار، والزَّمَن دَوَّار
وترقَّبي يوما ينادي مناديجْ
صالوا النَّشامى واندَثر كلّ الأشرار
تلاشى صوتُه، صمتَ وتحركت كل عضلات ومفاصله.. وراح يَحوصُ في المكان، دار حول الكوخ وسار في تلافيف المخيم وبقي على هذا الحال إلى أن نال منه التعب ما نال.. فعاد وهَجَعَ أمام الكوخ تتناهى إليه أنفاس الأطفال.. لا يكاد يغفو حتى يصحو.. أدلج الليل، وغابت الثريا يتبعها سهيل، ونومه قَلَق.. نظر إلى عمق السماء فرأى نَجْمَة الصبح تتألق عروسا في سماء البهاء.. نهض، توضأ، صلَّى الصبح.. واستيقظت أم سعيد على حركته قالت.. “شعرتُ بك، لم تنم..”.. أتاه صوتها وكأنه من عِلِّيَة داره التي تسكن ويسكنها.. هبَّ في داخله الحنين، شعر رأسه الأبيض هفَّ مع النسيم كأنه سنابل القمح في الحقول يغازلها الريح.. نطق لسانُه من دون استئذان كأنه الآمر الناهي، قال: “أم سعيد البَسي وأيقظي الأولاد” هزَّها شيءٌ في صوته، قالت بلهفة: “خير إن شاء الله يا أبو سعيد”.. نظر إليها فلمعت صورتها في ذاكرته، رأى جبينها كأنه مُضاء، بدت له مشرقة، وتراءت له صورتها المعتادة وهي تحمل إليه خبزا ساخنا من فرن الدار وتُعِدَّ له فطوره وتهيئُ قهوته المرة.. اشتد حنينه قال: “وحشتني الدار يا بهيجة، سنعيِّد هناك..”.. دهشت بهيجة “هناك؟! كيف؟ كيف نصل، وهل نصل؟ كيف ستكون الدار، كيف..”.. لم يتركها تتابع أفكارها وتلتمس هواجسها.. قال “هيا بسرعة، سنقطع مسافة من الطريق قبل حَمَاوة الشمس.. لم أعد أطيق البقاء هنا، أيقظي الأولاد ولا تلفتي نظر أحد”.. تناوبت على بهيجة المخاوف والمغريات.. دار المرء حياته.. لم تجد منذ تلك الليلة التي غادرت فيها الدار طعما للراحة، ولا شفي قلبها من وجع، ولا ارتاحت في نوم.. كل ما تركته في الدار كان يحضر في أوقات فيشدها من شعر رأسها، وكانت أصعب تلك الحضورات في الليل.. أيقظت الأولاد ولم تكن مضطرة لإلباسهم ملابسهم فهم ينامون فيما لديهم من ملابس فهي للنوم والصحو والمشي والركض والحر والقر. ترتيب أمر المغادرة الذي قرره أبو سعيد أمر يسير فلا يوجد في الكوخ ما يستدعي أن يُحمَل عدا ضروريات للطريق..
في المدى الصباحي سار الركب الأسروي نحو القرية ـ الدار، كبار الصغار فرحوا عندما عرفوا الوجْهة، والصغير، آخر العنقود، كان يتثاءب ويطلب أن تحمله أمه.
حمل أبو محمد سعيد ما يجب حَملُه وسار أمام زوجه وأطفاله، ناشدا داره وأسرته الكبرى هناك في القرية التي يحنُّ إليها وإلى ترابها وأهلها أيّما حَنين.. الحياة هناك، والفرح هناك، وكل شيءٍ هناك. في الدَّرب الطويل كانت تراوده الأحلام، فيحُثّ خطاه إلى عالمها.. سيستدين من معارفه ويشتري خروف العيد ويضحي لوجه الله، شكرا وتفاؤلا بما سيكون عليه الحال في القرية من راحة بال بين الأهل والأصدقاء والعيال.. وأول ما سيقوم به، بعد تنظيف البيت، هو أن أن يُحَمِّص القهوة بالمِحْماسَة، ويطرب على إيقاع دقِّها في الجُرن الخشبي المنقوش “المِهباج”، صديق عُمره وآلته التي اعتاد أن يوقِّع عليها ألحانه قبيل شروق الشمس، ليهيئ القهوة المُرة بالهيل، ويشرب.. يشرب حتى يعتدل مزاجه.
بعد سفر شاق وتعب وصل إلى مداخل القرية مُنهكا، كانت تتراقص هناك خيالات أو أشباح لحال ليس هو الحال.. صدَمَه ما شاهد في مداخلها من دمار، بعض سقوف المنازل تلامس الأرض.. نَزَغَه الخوف وبدأت هواجس سوداءُ تغزوه وتوقّعاتٌ تنغَل في صدره، هل هذا الحال هو حال القرية كلها، هل هذا حال داره وحال أهله وجواره؟!.. تابع سيره على أرضية القلق والشّوق والأمل.. الدَّار قريبة وسيرى بعينيه وسيرتاح هناك كيفما كان الحال. في الطريق إليها كانت بعض الحجارة وشُقَفُ الإسمنت تتناثر.. تلمَّس مفتاح باب الدار وأمسكه بأصابعه من دون أن يخرجه من جيبه. أخيرا وصلَ، وقفَ أمام ما كان بابا لداره، ارتخت أصابعه القابضة على المفتاح في جيبه.. لا حاجة للمفتاح، لا يوجد باب للدار، الباب الحديدي غير موجود، أتُراه هرب من شدَّة القصف ورعبه كما هربنا؟! لكن الحديد لا يخاف ولا يهرب، كان الباب الحديدي العتيد صامدا عندما غادرنا الدار، لقد تأكَّدَت من ذلك حين أغلقته بيدي ووضعت المفتاح في جيبي.
فاجأه جارُه عبد الله “أهلا أبو محمد سعيد.. الحمد لله على السلامة.. الحمد لله بالمال ولا بالعيال يا أبو محمد، الحمد لله على السلامة يا جاري.. بالمِال ولا بالعيال، والحال من بعضه يا جار الخير.”.. غَصَّ عبد الله بريقه وتوارى ليواري دمعه الذي كاد يغلبه.
دخل أبو محمد سعيد ومعه أفراد أسرته أشباحا إلى دارهم “الحُلُم”، فكانوا في مساكن أشباح.. شجرة التوت ذاوية، بعض الأشواك لاوية رؤوسها في قُرَن الدار، خابية الماء متشققة من الجفاف.. جال في المَضافة، في الغُرَف، في العِلِّية.. لم يبق شيءٌ على حاله. كانت صدمته قاسية حين لم يجد دَلات القهوة ولا الفناجين ووجد جُرن القهوة الخشبي المنقوش، صديق عمره، مكسورا.. لا يوجد أي شيء يمكنه من تهيئة القهوة المُرَّة بالهيل، قهوة العيد.. حَزِن، دار دورة أخرى في الدار، فتح صنبور الماء، “لا ماء”، وضغط على زر الكهرباء، “لا كهرباء”.. لا فرن ولا جرن ولا غاز.. لا حول ولا قوة إلَّا بالله.. لقد جاء ليعيِّد في داره ويشارك أهله وأناسه وأبناء قريته فرحَا طال غيابه.. لكن.. لا عيد ولا بهجة ولا بسمات ولا زيارات ولا.. وكأن لا صلاة عيد، والعيد بلا تهليل وتكبير وصلاة وبلا أضحية وبلا قهوة مُرَّة، وبلا.. وبلا.. وبلا.. هل يكون عيدا..؟!
حار أبو محمد سعيد في أمره، ماذا يفعل وكيف يتصرف ولمن يلجأ، والحال لا يجوز أن يبقى على ما هو عليه، لا سيما حال الأطفال الجَوعى العِطاش؟!.. قالت أم سعيد بعد صمت طويل وذهول وتنهيدة عميقة وحسرة أذرَفت دمعها: “يا رجّال لا بد من أن نفعل شيئا، الأولاد لا يصبرون.. المَاء على الأقل، المَاء حياة.. لا بد من ماء”.. هَمهم أبو سعيد بكلام غير مفهوم.. وخرج على وجهه إلى سواد حالك في عزّ الظهر.. يسأل ويبحث عن ماء لأطفاله العِطاش..؟!”.. ونفسه تحدثه بأنه عاد إلى الدار التي يُحب، والدُّور تعمرها أهلها، وأن أطفاله الذين ربما يفوتهم هذا العيد سيَصنعُ لهم أعيادا.. ففي دار المرء تُسْتَنْبَتُ الحياةُ ويُسْتَنْبَتُ الأمل.
المصدر: اخبار جريدة الوطن