مَن يقلب الصورة؟ وكيف يصبح الحمقى أهم من الحائزين على جائزة نوبل؟ ماذا تفعل وسائل الاتصال الحديثة؟ ومن يسمح لهؤلاء الحمقى أن يصدقوا أنفسهم ويصروا على “أهميتهم”؟! أسئلة تثار ويعرف الجواب أحيانا، ومرات يصمت عليه مجاملة أو تحابيا أو تغافلا، وفي النهاية تصب في خيانة الثقافة والزمن والإنسان وجمال الحياة.
هذه ليست طرفة أو أمرا عابرا، بل إنها أخذت تشغل حيزها من القراءة والقراء، وتزيد في قتامة الصورة المنشودة من الثقافة والمعرفة والعلم!
لهذا ليس غريبا أن يكتب الكاتب الإيطالي امبيرتو ايكو، قبيل رحيله، أن أدوات مثل “تويتر” و”فيسبوك” منحت حقا لكلام لفيالق من الحمقى.. ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط، بعد كأس من النبيذ دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحملون جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء!
غزو البلهاء، الحمقى، العنوان الذي أستعيره من هذا الكاتب ولم أجد له بديلا. وأعلم أن المسألة هنا لا تتعلق طبعا بحرية التعبير ولا بحق الكلام أو القول، وإنما ارتباطها في المعنى والمدلول، والجوهر والهدف، والغاية والقدرة والإبداع والفكر.. وترتبط بالوعي، وبالوعي النقدي، والقدرات والملكات الإبداعية، فليس كل فقيه متفقه، كما ليس كل من كتب أسطرا صار كاتبا أو “مفكرا”! بمزاجه ورغبته والحاجة إلى تعريف نفسه أو الطلب من “حاشيته” التهويل له وتسعير أو تسليع الإعلان عنه وتسويقه، وحتى من نشر كتابا أو علق صورته على صفحة “فيسبوك” اسما علما أو خبيرا استراتيجيا في الآداب والفنون والتقانة والعلوم الأخرى. رغم أنه قد يكون مختصا في شأن ما أو قد يكون خبيرا في أمر ما ولكن ليس مبدعا في الآداب والفنون والمعارف العامة، أو كاتبا هاويا أو محترفا. وهذه نظرة في هذا المجال الذي كتب عنه الكاتب الإيطالي.
فإذا وسعنا النظر واتجهنا صوب منظمات أخرى ولا سيما من يسمون أنفسهم أو يختار لهم الاسم، أعضاء ناشطين فيها، كمنظمات “لافتة” حقوق الإنسان، والتي تتناقض حتى مع الاسم الذي تحمله، هي كمنظمة أو نشطاؤها البارزون. وقد كشفت محاكم بريطانية قبل سنوات فضائح لبعض هذه المسميات وأصحابها، وعرف من أسس بعضها علنا وبالاسم، أجهزة مخابرات أنظمة متخلفة ولم يخجل أدعياؤها منها، واستمروا بأسماء ومسميات وحفلات أخرى.. وكشفت وسائل إعلام عن دور نشطاء معروفين بالعمل في أجهزة قمعية في الوقت الذي يكرمون به باسم حقوق الإنسان. فيا لمأساة هذه الحقوق، والمفردات الجميلة مثلها، وكم حمل أو وضع على صدره أوسمة باسمها وهي بعيدة.. بعيدة جدا عن أي معنى لها..
مسكينة حقوق الإنسان، مسكينة الحرية، كم جميلة هي الكلمات؟! وكم ارتكب باسمها من جرائم أو محرمات أو فضائح مخزية؟!
أصبحت هذه الوسائل والطاقات والمنظمات كما هو النفط في البلدان العربية، نعمة ونقمة. نعمة للتواصل والتثقيف والإثراء الروحي والمعنوي والمادي، ونقمة في استخدامها من قبل بعض الناس والدول للتجهيل والتدليس والتضليل وغسل الأدمغة وكي العقول، والنزعة الطاووسية المدفوعة الثمن أو التكلفة مسبقا.
وفي التجارب اليومية هناك كثير من الأمثلة والشواهد والوقائع والقصص التي تكشف وتقول قولها. لكل الأسباب، هذه وغيرها، لم أفتح صفحة لي في هذه الوسائل رغم أهميتها ومعرفتي بها لكني آثرت التريث وتجنب زلات الأعداء المتربصين، وحاولت أن أكون الناصح الأمين.. وكما يبدو أن لكل شيء وجهين، وقد يتغلب أحدهما على الآخر، وهذا اختبار غير معلوم أو عبور خطر قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.. والله أعلم!
قال صاحبي: نصحت بعضا من هؤلاء أن يطالعوا ويقرأوا ويجدوا قبل أن يكتبوا وينتقدوا ويصدروا أحكاما وأوصافا ليست في محلها أو بعكس مرادها إلا إذا كانت هذه غايتها وهدفها. فليس من الصحيح أو الجميل أن تكتب نصا حافلا بأخطاء نحوية أو لغوية، وليس من المناسب ألا تحترم قواعد اللغة التي تكتب بها، فهذه ليست عيبا لغويا وحسب، بل وعيب أخلاقي أيضا، ويجب الحرص على التعلم والتثقيف قبل خوض الغمار.
وأضاف صاحبي: وبلغ الأمر ببعض أن أشتري له كتبا وأهديها له وأنصحه .. وضاعت النصيحة والهدية والنوايا الحسنة.. وفي وصف مثل هؤلاء قال العرب قديما وهو ما ينطبق عليهم اسم الحمقى، والحمق داء لا دواء له:
لقد أسمعت إذ ناديت حيًّا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
لقد أذكيت إذ أوقدت نارًا *** ولكن ضاعَ نفخُكَ في الرمادِ
وهذا الرماد هو ما يغلب في الكثير من واجهات النشر، وحتى في مواقع إلكترونية أو مجموعات الواتساب أو الانستجرام أو أمثالها. وهي ليست فضيحة وحسب وليست منفردة وتمر، بل صارت حالة مرضية أو وبائية قد تغطي على المطلوب والمقصود والمفيد فعلا.
أمام هذه الحالة القائمة والخطيرة لا بد من قوانين عمل وضبط وإشراف وتقدير واحترام للثقافة والفنون والآداب والأخلاق الحميدة، عكس ما تقوم به هيئات بعض الوسائل، والفيسبوك أو التويتر من خطوات قمع سياسية فكرية تخدم مصالح استعمارية ودول معادية لحرية الكلمة والرأي والتعبير. وباتت الأمور أكثر من واضحة ومعروفة ولا بد من وقفة ضمير وإحساس عالٍ بالمسؤولية الثقافية والاجتماعية والأخلاقية..
تتطور التقنية وتتنوع الوسائل الاتصالية، ولأن أغلبها بالمجان في الاستخدام لها فلم يعد الأمر محصورا أو مقيدا. إذ أتاحت الثورات التقنية المجالات رحبة أمام الجميع وتركت للمستخدم استعمال عقله وقدراته في الإبداع والتطوير والتحديث والتنوير. وتلك هي القصة والموضوع، حيث يتوجب ضبط الأمور واحترام حقوق الشبكة العنكبوتية والقارئ وزمنه والاستفادة منها في ما يقدم للمجتمع من كل ما ينفعه ويقدمه ويطوره، لا العكس، كما يفعل البلهاء.
المصدر: اخبار جريدة الوطن