د. رجب بن علي العويسي:
تتجه السلطنة في رؤيتها الطموحة “عُمان 2040” نحو تعزيز الإدارة المحلية للمحافظات، وترسيخ مفاهيم اللامركزية في العمل الوطني، القائمة على توسيع قاعدة التشاركية بالاستفادة من كل المكوِّنات والميزات التنافسية بالمحافظات في بناء مرحلة جديدة تتناغم مع معطيات الرؤية وتتجاوب مع متطلبات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتداعياتها على الحياة المعيشية للمواطنين، من خلال جملة من الأهداف الساعية إلى تعظيم القيمة التنافسية للمحافظات وتوظيفها في صناعة الفارق، والاستثمار الأمثل في الفرص والموارد والممكنات والأدوات، وخلق حراك مجتمعي يتجه لصالح استدامة التطوير النوعي والتحديث الموجه، وإعادة هندسة الواقع الاقتصادي وتقييمه وتعزيز ابتكارية المشروعات الإنمائية والخدمية والإنتاجية بالمحافظات، وصياغة واقع جديد من العمل المشترك والتفاعل النوعي والتناغم في الرؤى والأفكار، وتدارس جوانب القوة وفرص النجاح التي تتميز بها المحافظة، أو التحديات والصعوبات التي ينبغي الوقوف عليها وتكاتف الجهود نحو معالجتها، وتعزيز مبادئ التفاعل والاحتواء وتلمس الأفكار الإيجابية، واستمطار الأفكار واستنطاق الفرص وإنتاجها بطريقة تضمن فاعليتها وإعادة تدويرها بشكل يضمن كفاءة العمليات الداخلية وقدرتها على التكيف مع الواقع التنموي المتجددة وتعاظم قيمتها المضافة التي ستصنع الفارق في نواتج العمل.
وبدوره شكّل المرسوم السلطاني رقم (101/2020) بإصدار نظام المحافظات والشؤون البلدية محطة انطلاقة لتنفيذ هذه الرؤية وتجسيدها في واقع عمل المحافظات، للقناعة بأن تنفيذ هذه الاختصاصات بحاجة إلى وضوح الأدوات وفاعليتها وكفاءة الآليات ومرونتها، ووقوفها على أرضية صلبة من الصلاحيات والتشريعات والضوابط والهيكلة وفلسفة العمل ومسار الأداء القادم، وهو بذلك أجاب عن الكثير من التساؤلات حول شكل هذه الإدارة المحلية والصلاحيات والآليات والظروف التي تعمل فيها، فكان برنامج تنمية المحافظات خيارا استراتيجيا لوضع هذه الثقة موضع التنفيذ ونقلها إلى حيز الفعل، وجاءت التوجيهات الكريمة السامية لجلالة السلطان المعظم برفع سقف المبالغ المخصصة لبرنامج تنمية المحافظات من 10 ملايين ريال عماني إلى 20 مليون ريال عماني لكل محافظة خلال سنوات الخطة الخمسية العاشرة 2021- 2025 وابتداء من العام الحالي 2022، ومسؤولية المحافظات في تقديم خطة تنفيذية سنوية للجهات المعنية حول كيفية استغلال هذه المخصصات، وتفعيل دور المنفذين (المحافظين والولاة ومساعديهم والمجالس البلدية)، بالشكل الذي يضمن تمكين المحافظات من بناء وتطوير وإعادة إنتاج مواردها والاعتماد على نفسها، ورفع مستوى الابتكارية في المشروعات الاقتصادية والإنتاجية والخدمية والسياحية، دعما ساميا لانطلاقة جادة وفاعلة للمحافظات في تحقيق الأدوار الممنوحة لها.
لقد رسم جلالة السلطان المعظم في ظل ما أفصح عنه عاطر الخطاب والنطق السامي عن خط سير استراتيجي لمسار الحوكمة وآليات التطوير وأولوياته التي يجب أن تتجه إليها المحافظات للوصول إلى نموذج حضاري معاصر في الإدارة المحلية يتواكب مع الخصوصية العُمانية ويجسد الفرص التنافسية النسبية للمحافظات وعبر الأخذ بأحدث الأساليب الإدارية مستفيدة، من عوامل التطور الحاصلة في الإدارة وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، ومراعية الظروف والمتغيرات والأحداث التي تمرُّ بها السلطنة، وبالتالي تُمثِّل منظومة الحوكمة في نظام المحافظات خيارا استراتيجيا لتحقيق التوازن بين السياسات والخطط والبرامج، وبين الأولويات والاستحقاقات والتوقعات، بما يضمن التوجيه السليم للمحافظات في أداء مسؤولياتها، والتقليل من حالة الاجتهادية والعشوائية التي قد تؤثر على مسار تحقيق الهدف ويبعد المنظومة عن أولوياتها التنموية، وهو الطريق الآمن لتحقق المتابعة وترسيخ العدالة، وتحقيق النزاهة وتكافؤ الفرص، وضبط الممارسات وتفعيل أطر المحاسبية والمساءلة، بالإضافة إلى ضمان إعادة إنتاج البنية الهيكلية والتنظيمية لهذا المشروع الوطني الحضاري القادم وتفعيلها في مختلف مراحل العمل وفق نظرية النظم، وتحليل البيئة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ونمو السكن ومؤشرات أخرى لها صلة بتنظيم الخدمات وتوفير الاستراتيجيات، مراعية في ذلك مدخلاته وعملياته والمخرجات المتوقعة منه، وتناغم السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ضمن هيكلة العمل الموجه نحو المحافظات للمزيد من القوة في التنفيذ والأمانة في التخطيط والمصداقية في الإنجاز، والابتكارية في الممارسة، والإدارة الكفؤة والفاعلة للموارد، بما يستدعيه ذلك من وضوح فلسفة العمل وأبجديات التطوير وفق نماذج تطويرية قائمة على التخطيط السليم والتنفيذ الأمين والكفاءات المخلصة والجهد المنظم والعمل المؤطر، كمعايير واضحة لعمل مؤسسي مرتقب يحقق العدالة ويرفض منطق البيروقراطية وإثبات القوة والعظمة للذات، وحضور الجميع في كل مرئيات التطوير التي تسعى المحافظة إليها في كل ولاياتها، بما يعنيه ذلك من حاجتها للمخلصين والخبرات وأصحاب الرأي وأهل المعرفة والثقة المجتمعية، ومن الشباب المبادر المجيد الذي يشهد له المجتمع حضوره وجهده.
وتصبح منظومة الحوكمة بذلك معادلة القوة بين كفاءة التشريعات وإنتاجيتها ونضجها ومواكبتها للتحوُّلات الحاصلة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ووضوح المهام والاختصاصات والأهداف والغايات واللوازم والوسائل والأدوات التي تشكل بمثابة خط سير لوضع الرؤية السامية موضع التطبيق، والبناء الفكري الاستراتيجي الذي يدير هذه المنظومة ويحفظ كيانها ويصون مبادئها ويحافظ على مكتسباتها ويثمّر في مواردها، ويعزز من كل فرص التقارب والود والتواصل مع المواطن، إذ إن مسؤولية بناء وتطوير المحافظات بحاجة إلى ثقافة فردية ومجتمعية يتناول فيها الفرد عن كل الرواسب والتراكمات الفكرية والثقافية التي باتت تتجه بالعمل المؤسسي إلى البيروقراطية وتنازع الاختصاصات وازدواجية العمل، وأن تتجه فيها فلسفة البناء الفكري للقائمين على هذه المنظومة والمجتمع نحو استدراك مسار التحوُّلات القادمة والتي تستدعي تحوُّلات في الفكر والإدارة والتغيير وهندسة العمليات، وتفهما حقيقيا لمتطلبات المرحلة واستراتيجيات تحقيق هذا الدور ورسم ملامح المستقبل القادم، وعبر التطوير في ثقافة المجتمع. على أن التركيز على أهمية الوعي والتغيير في الأفكار والممارسات ناتج من أن دور المورد البشري في تحقيق هذا الرهان، إذ إن من ينفذ هذه اللوائح ومن يؤسس لإبقائها في مساحة الأمان من التطبيق والالتزام بها إنما هو المورد البشري الكفء القادر على حمل هذه الرسالة والمحافظة على عمقها وتأثيرها.
وعليه، فإن التوجُّه نحو اللامركزية في عمل المحافظات والاحترافية والتشاركية وإنتاج الفرص وصناعة البدائل واستنهاض روح التغيير بحاجة إلى ثقافة تغيير في الإدارة وطريقة الممارسة وفقه الأداء وثقافة العمل والسلطة التنفيذية بالشكل الذي يضمن تنفيذ هذا المشروع الوطني الاستراتيجي بكل أريحية، وما يعنيه ذلك من تصحيح الممارسات القائمة على البيروقراطية والروتين اليومي والشخصنة والفوقية والسلطوية للوصول إلى تحقيق مفهوم أعمق للإدارة المحلية للمحافظات، إذ تُمثِّل ثقافة العمل المؤسسي القائمة على قاعدة واسعة من الشراكة والتطوير والاحترافية وتعزيز الفرص محطة قوة تعزز من كفاءة تطبيق التشريعات وتنفيذها بما ينسجم مع روح التشريع، وفي الوقت نفسه فإن إنتاجية التشريع ووضوح مسار الأداء وضبط الممارسة الطريق لصناعة تحوُّل على أرض الواقع، فتصبح الممارسة ملبية للطموحات محققة للأولويات متجاوبة مع الاهتمامات، كما يؤسس ذلك لتعزيز اللامركزية ومنح قِيَم الشراكة والعمل معا والاستثمار في الفرص والتثمير في المورد البشري واحتواء الرأسمال الاجتماعي البشري وإنتاج الفرص حضورا فاعلا في إدارة المحافظات.
لقد أشار جلالة السلطان المعظم في أحد لقاءاته مع شيوخ المحافظات، إلى أن تجربة الإدارة المحلية للمحافظات جديدة على المواطن، ولذلك تبقى حاجة الكفاءات الإدارية لمزيد من التعلم والتدريب وإكساب المهارات أحد هذه الموجِّهات التي ينبغي على الحكومة أن تتعاطى معها وفق برنامج وطني تدريبي وتأهيلي في الإدارة والتمكين والصلاحيات والمحاسبية وعبر تعريض القائمين على إدارة المحافظات لبرامج محاكاة واقعية، لتمكينها من أداء مهامها والوقوف على اختصاصاتها، وبالتالي التغيير في الفكر الإداري الذي يدير المحافظات، والخروج به من عقدة المفاهيم والمصطلحات التقليدية والأفكار الأحادية التي تشكل حجر عثرة وعقبة كؤود أمام أي توجُّهات للتطوير ومساعٍ للتحديث والتجديد، وصعوبة تكيفها مع متطلبات الشباب ورفع درجة الجاهزية لديه في تصحيح ممارسات الواقع وإعادة إنتاجها من التغيير، وبما ينعكس إيجابا على تجديد القناعات وتأصيل الفكر الاستراتيجي والممارسة التأملية، وموجِّهات التفكير الناقد وفلسفة التطوير والابتكارية، والبُعد عن التكرارية وفائض العمليات والهدر في المال العام والاهتمام بالشكليات على حساب الجوهر.
أخيرا، فإن ما يحمله هذا التوجُّه الوطني من دلالات وأبعاد محطة مراجعة وتقييم لقراءة نظام المحافظات، وتجسيده في نماذج وطنية تشكل بمثابة نواة يمكن الاستناد إلى بعض محدداتها ونجاحاتها والتعرف على إخفاقاتها والتحديات التي تواجهها، فإن مفهوم الاستثمار في موارد المحافظة الواردة في المادة (6) من نظام المحافظات، يحمل في طياته أبعادا أخرى لتشمل إعادة صناعة المورد البشري بالمحافظات، وتعزيز مفهوم أعمق للمسؤولية المجتمعية، وتعزيز الكفاءات الوطنية واحتوائها، وتمكينها من لعب دور أكثر مهنية وتشاركية عبر ما يقدمه مجتمع المحافظة من مبادرات، الأمر الذي قد يعزز من تفاعل المواطن مع الفرص المتاحة، ومد خيوط التواصل وفتح قنوات الاتصال مع المواطن ومختلف شرائح المجتمع من مثقفين ورجال أعمال وأكاديميين وأصحاب المبادرات المجتمعية باعتباره استحقاقا وطنيا لا يقوم مفهوم التطوير إلا به ولا يصل إلى أهداف إلا من خلاله وعبر تقوية الممكنات الداعمة له.
المصدر: اخبار جريدة الوطن