ينطلق تناولنا للموضوع من فرضية تأثير الإجراءات والتدابير التي فرضها واقع كورونا على صحة المواطن، فمسألة البقاء في المنزل على الرغم من كونها خيارا استراتيجيا فرضه الواقع للحد من انتشار المرض؛ إلا أنه يؤسس لتحديات أخرى تتعلق بالصحة النفسية والبدنية وأهمية التعاطي الواعي معهما بما يحفظ مستوى التوازن الفكري والنفسي والجسدي لدى الإنسان في التعامل مع هذه الجوائح وردّات الفعل السلبية المتوقعة، خصوصا في ظل استمرارها لفترة أطول وتضييقها على حركة الفرد وتنقلاته بما تفرضه عليه من قيود وإجراءات، وبالتالي يطرح الشق المتعلق بالصحة النفسية للمواطن حضوره النوعي في ظل معطيات الحالة العالمية والتأثيرات الناتجة عنها على البُعد النفسي وهاجس الترقب والخوف وارتفاع معدلات القلق النفسي والفكري، وتزايد الأفكار السلبية حول الفيروس باتت التحدي الأكبر في معادلة الحد من انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) خصوصا في ظل ما عايشته هذه الجائحة من استعدادات عالمية غير مسبوقة وإجراءات وتدابير احترازية وقائية عالمية غير معهوده في تاريخ البشرية المعاصر، وما تبع ذلك من تزايد اختلاط الأوراق، واتساع المعطيات السلبية الناتجة عن تصاعد أعداد الإصابات والوفيات بالفيروس حول العالم.
عليه تشكل الصحة النفسية في ظل أحداث هذه الجائحة إطارا يحوي كل التفاعلات والأفكار التي تضمها شخصية الفرد وتدور في خيالاته وأفكاره ووجدانه حول نفسه وحياته وصحته وواقعه ومصالحه وظروفه وحجم التساؤلات والاستفسارات والاستفهامات التي يطرحها حول هذا الواقع الذي يعيشه بين جدران منزله، غير قادر على الحركة والتنقل بالمرونة التي كانت له، أو حول المرض ذاته وما يصل إليه من مواقف وأحداث حول خطورته وتأثيراته؛ فيستخلص منها مواقف الإيجابية والتفاؤل، ويزيل منها العوائق والشوائب التي تؤثر على إنتاجيته في الحياة وقدرتها على ترك بصمة حضور شخصية له في واقع أسرته أو في اهتمامه بتفاصيل حياته وترقية أفكاره وتجديد موارده ومهاراته، فتضبطها بضابط الخُلق الرفيع والمعاني السليمة ونبل الصفات الحميدة، لتنعكس إيجابا على قناعاته وتتمكن من إعادة إنتاج ثقته بنفسه وبالعالم من حوله في تجاوز هذه المحنة، لتصبح قناعة داعمة له قادرة على الإجابة عن التساؤلات التي يطرحها والأفكار والتخيلات والهواجس التي تدور في خاطره، قادرة على تغيير عاداته وممارساته اليومية؛ منطلقا للعلاج ومدخلا للتعافي وفرصة لقراءة الواقع بثوب جديد، وتصوره في إيجابية ما يمكن أن تحققه البشرية من تأثير هذه الجائحة، وتحويلها من محنة إلى منحة، ونقلها من حالة الاستهلاكية والسلبية والنكوص للوراء والبقاء في الجبّ، إلى ابتكار أدوات جدية لتخليص النفس من أنانيتها وتوجيهها لعملها لتحقيق مفهوم التشاركية والعمل الجمعي.
وتبقى الصحة النفسية للمواطن محطة لإنتاج فرص الحياة من جديد وتحقيق معادلة التوازن في البناء النفسي والفكري للمواطن، عبر ترقية طاقاته وقدراته ومشاعره وبناء التزامه وشغفه وإنتاجيته، ومساحة متجددة من الآمال والأحلام بتحقق التغيير ورسم ابتسامة الحياة، وإعطاء النفس دفعة أقوى لقبول الواقع وإعادة تصحيحه وبناء مساراته، كونه صاحب رسالة يعيش في هذه الحياة بضمير الإنسانية وأخلاق الأنبياء وصبرهم الذي يتجاوز حدود الأنا، وهكذا تصنع منصات السلام الداخلية في الإنسان حول كورونا وأحداثه ومفاجآته ومستجداته؛ فرصة جديدة للتعبير عن الإرادة واكتشاف الذات من خلال ما تمتلكه من مهارات واستعدادات وجاهزية، ويتعامل مع هذه الظروف الناتجة عن كورونا بمزيد من الإيجابية والأريحية وتحقيق أهداف جديدة، ما كان له أن يحققها في غير هذا الوضع بكل أريحية وبمزيد من الإتقان في الإنجاز وبلوغ الهدف في ظل ما يغلفها به من سلامة التخطيط وأمانة التنفيذ ومصداقية المتابعة وذوق الاختيار وصدق الممارسة، مستحضرا كل خطوط التأثير النفسي والاجتماعي والفكري الداعمة لمفهوم الاستقرار النفسي للموطن وتحقيق الصحة النفسية والسلام الداخلي المقاوم للمرض، ويكشف عن حالة الشعور السلبي بنواتج هذا الوضع والاستمرار فيه على الأمن النفسي للمواطن والقناعات والأفكار والصورة الذهنية والنمطية العامة التي باتت تنعكس على شخصية المواطن نفسه، وهو حالة طبيعية مصاحبة لسلوك أي مواطن في أي مجتمع ناتجة عن استشعاره حجم هذه الجائحة والمخاطر المترتبة عليها، والشعور بالخوف والقلق والاضطراب؛ إنما هو تعبير عن مسارات تأصيل الصحة النفسية في مواجهة الهواجس الداخلية والأفكار السلبية حول المواقف المشاهدة في العالم وحجم الضرر النفسي والاجتماعي المترتب عليها، لتتفاعل هذه الموجهات في كومة تراكمية في ذهنه والعقل اللاواعي لتزيد من شحنة السلبية لدية وتنغص حياته بارتفاع درجة القلق التي لم يجد من يمسح عنه صدأها في البيت إلا قليلا، إذ الكل مشغول بأمره، لتنتزع منه حالة الاستقرار النفسي؛ وترسم علامات الحزن، وتمنح مقياس القلق والخوف مبررا في الصعود والارتفاع.
على أن النجاح في إدارة تأثير الجائحة على صحة المواطن النفسية لضمان مساعدته في تحقيق أعلى درجات الجاهزية في التعاطي مع المرض والوصول إلى درجة التعافي مرهون بتبني برامج نوعية مبتكرة تعمل على خفض درجة القلق المجتمعي المرتبط بجائحة كورونا، وما يطرحه ذلك على المراكز والمؤسسات التعليمية والبحثية من تبني الدراسات المتخصصة والعميقة عن هذا الموضوع والدراسات المسحية والتشخيصية للتعرف على أثر درجة القلق النفسي في زيادة مستوى الإصابة أو الوفاة بهذا المرض بالشكل الذي يسهم في مساعدة الأطباء والممارسين الصحيين في التعامل مع هذا الواقع وسد مداخل هذا القلق كخطوة استراتيجية في التقليل من مخاطر هذا المرض وانتشاره، والبحث عن مستلزمات وحلول للواقع الذي تعيشه المجتمعات وحالة الاضطراب النفسي والفكري والقلق التي باتت المؤثر الأكبر في معادلة المعالجة التي يحاول العالم أن يحققها من خلال سرعة تنفيذ الإجراءات الاحترازية، ومعنى ذلك أن الوصول إلى درجة الرضا ورسم ملامح إنجاز قادمة في قدرة المواطن على التعاطي الواعي والنجاح في الرهان، يستدعي تدخلات مؤسسية مقننة واضحة المعالم محددة الأهداف، فإن الصحة النفسية عملية مكتسبة، تحددها الظروف والأمزجة التي يمر بها الإنسان، فهي من تستطيع أن تنتج منها عاملا مساندا داعما لحياة ملؤها الأمن والاستقرار والسلامة والطمأنينة والسعادة، وهي أيضا قد تصبح عامل هدم لحياة الإنسان وعدم قبوله للوضع الذي يعيشه، والظروف التي تحصل له، فيتعامل معها بشيء من السخط والإحباط ويفتقد خلالها لكل مشاعر الإيجابية والألفة مع النفس والرضا بالواقع، والبحث عن نوافذ الأمل ومفاتيح للأبواب المغلقة التي سدت في وجهه، ويتجاوز حالة الضيق أو الغضب وسرعة الانفعال وثوران النفس والاندفاع التي تحصل له كردة فعل حول بعض الإجراءات وتقييد حركة التنقل أو مكوثه في المنزل مدة أطول؛ فإن ما تسهم به الوساوس والخيالات النفسية والشعور بالتعقد والألم من تأخير الشفاء وزيادة انحسار فرص الإيجابية، سوف يطيل من تأثير هذا الفيروس سواء على المصابين به أو كذلك المخالطين، بما يؤكد أهمية البحث عن توفير برامج في الصحة النفسية، لتقليل جانب السلبية لدى المواطن عبر برامج متخصصة وذات جدوى في قياس الأثر الناتج عنها في سلوك المواطن وتعاطيه مع هذه الجائحة بشكل عام أو سلوك المرضى والمصابين أو ممن هم في العزل المنزلي والمؤسسي، وذلك عبر تعظيم منحى الاستفادة من الفرص الشخصية وتوظيف جوانب المتعة في البقاء في المنزل، وإدارة وبناء أساليب في تغيير روتين الحياة والإفصاح عن المشاعر الإيجابية، وتعميق مفاهيم الحوار الأسري والتواصل الاجتماعي عن بُعد بين الأهل والأصدقاء والاستفادة من التفاصيل الجميلة في الحياة باعتبارها منصات لإسعاد النفس وتحفيز الذات وتعزيز القوة الداخلية الممتلئة بالحماس والتفاؤل والابتسامة والسرور، بما يضمن تغييرات قادمة في محتوى وأساليب البرنامج اليومي الذي يعيشه المواطن مع أسرته في البيت ونمط الخطاب الداخلي مع الأسرة وخارجها، وتحريك العمليات التواصلية والاتصالية الداخلية والخارجية الاجتماعية مستفيدا من التقنية، في إنتاج البرامج التعليمية والتدريبية المشوقة والجاذبة المعززة بأريحية التعامل معها؛ إذ إن تفاعل هذه الأطر وتكامل الموجهات وبناء روابط اجتماعية عبر المبادرات الجادة من قبل المؤسسات وذوي الاختصاص في الصحة النفسية؛ سوف يصنع للصحة النفسية مدخلات القوة وممكنات النمو والتقدم في حياة المواطن، وهو يتعامل مع هذه الجائحة ويعايش أوجاعها وآلامها ووقعها وظروفها، كما يعيش الطموح والأمل والإرادة والحياة بكل تفاصيلها الجميلة وابتسامتها الهادئة وعذوبة لحنها لتبني الحياة على نغمات الطبيعة الجميلة وتغاريد الحياة.
وعود على بدء، فإن البقاء في المنزل كأحد الخيارات الاستراتيجية في مواجهة كورونا، كما أنها ارتبطت بتحديات الصحة النفسية، فقد نتج عنها أيضا تحديات أخرى تتعلق بالصحة البدنية، فالاتساع المتزايد في انتشار الأمراض غير المعدية في مجتمع السلطنة مثل: أمراض الفشل الكلوي والسكري عند الأطفال والكبار وأمراض الكبد وأمراض القلب وأمراض الشرايين الرئوية وأمراض العظام والرئتين ونقص الدم وفقره، وزيادة السمنة والكولسترول والسرطان والضغط وزيادة الجلطات والنوبات القلبية والوعكات الصحية المفاجئة والمخاطر الناتجة عنها؛ تسبب في أزمات صحية ونفسية واجتماعية خطيرة على المستوى الوطني والاجتماعي والأسري والشخصي، في ظل تزايد الحالات واتساعها وانتشارها بين أبناء المجتمع، الصغار منهم والكبار، والرجال والنساء، بصورة تدق ناقوس الخطر، حيث يشير تقرير وزارة الصحة لعام 2018 بأن الأمراض غير المعدية مسؤولة عن حوالي 72% من إجمالي الوفيات في السلطنة، وأن وفيات أمراض القلب والأوعية الدموية بلغت ما نسبته 36% وشكلت المرتبة الأولى من بين الأمراض غير المعدية، ثم تلتها مجمل أمراض السرطان بما نسبته 11%، كما بلغت وفيات مرض السكري بنسبة 8%.؛ ولما كان الخمول البدني أحد أهم المسببات الرئيسية للكثير من الأمراض غير المعدية، حيث أشارت نتائج المسح الوطني للأمراض غير المعدية الذي نفذته وزارة الصحة في العام نفسه إلى أن 41.6% من العمانيين يعانون من خمول بدني، إذ لا يمارسون نشاطا بدنيا كافيا، وترتفع هذه النسبة بين العمانيات الإناث لتصل إلى 50.6%، أي نصف العمانيات اللاتي لا يمارسن نشاطا بدنيا كافيا، فإن مسألة البقاء في المنزل تضع هذا الهاجس حاضرا في ظل قلة توفر البدائل المتاحة لتحقيق ذلك وتوقيف مراكز اللياقة البدنية والأنشطة الرياضية بما يضع المواطن أمام مسؤولية البحث عن بدائل في التغيير في عاداته وممارساته الصحية وأنماطه الغذائية، وبالتالي مستوى الضمانات المتحققة في ظل معطيات هذه الجائحة حول إعادة إنتاج الصحة العامة في حياة المواطن اليومية، والوصول إلى الحد الأدنى من معادلة التوازن في الصحة البدنية بغرس احترام ثقافة النشاط البدني والرياضي الذي يكاد يكون مختزلا في ظل هذه الأحداث وبين تقدير قيمة الصحة والغذاء السليم في ظل ضعف مستوى الحركة والتنقل وزيادة الخمول.
أخيرا، لقد اعتمدت السلطنة مدخل الاستراتيجيات وبناء الأطر مدخلا لها في التعامل مع الجائحة وإدارة واقع الأزمة، مدركة للكثير من الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية المترتبة عليها على المدى البعيد على الوطن والمواطن، وما قدمته اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) من موجهات في الأداء الفعال والقرار الرشيد وتفعيل خطوط التأثير الوطنية الداعمة لتحقيق الاستجابة المجتمعية في مواجهة المرض والتعامل مع مستجداته أو اتخذته من موجهات لسد النقص المعرفي والتأثير السلبي للأفكار غير الموثوقة المتداول عبر منصات التواصل الاجتماعي وسرعة الإجابة على التساؤلات المطروحة من المواطن حول مستجدات المرض ونواتج المؤتمر الصحفي الدوري الذي تعقده اللجنة في هذا الشأن، خير دليل لاستشعار ما تحمله هذه الجائحة من تحديات نفسية وفكرية؛ لذلك نعتقد بأن هذه القراءة الوطنية لإنسانية التعامل مع هذا الوضع والتوجهات الإيجابية المتخذة في هذا الشأن والتوجيهات الكريمة لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ لتمكين اللجنة من اتخاذ كل السبل في التعامل مع كورونا (كوفيد 19)، يؤسس في قادم الوقت لتحولات تظهر على شكل مبادرات وطنية عليا في تحقيق مفهوم الاستدامة في الصحة النفسية والبدنية للمواطن في ظل الأزمات؛ والتي تأخذ في الحسبان جملة من الموجهات عبر ترسيخ المفاهيم الإيجابية وقيمها في السلوك العام، وإعادة تصحيح المفاهيم السلبية والتفسيرات الخاطئة المرتبطة بالأزمات في الحياة اليومية، وفق أطر تتسم بالابتكارية في برامج التعليم ومنصات الإعلام والتثقيف والخطاب الرسمي أو تبني برامج تنفيذية وطنية عليا في الصحة النفسية والبدنية للمواطن، وحث المؤسسات المعنية على بث الرسائل الإيجابية والتوعوية المعززة للاستقرار النفسي والسلام الداخلي وممارسة الرياضة حتى مع عدم اكتمالها أو توفرها بشكل كامل واستغلال المتاح من الأجهزة الرياضية وغيرها في صناعة التجديد في السلوك البدني ومنحه فرصا أكبر للتجدد والحيوية والنشاط، بالإضافة إلى تأطير مفاهيم وقيم وأخلاقيات الصحة النفسية والجسدية وتعميق وجودها في الثقافة اليومية للمواطن في تعامله مع ظروفه الشخصية المالية والأسرية والاجتماعية والمهنية، أو كذلك مع تصوراته عن حجم هذه الجائحة وسيل المعلومات التي يتلقاها في اليوم والليلة، واستدراك ثقافة النشاط البدني في حياة المواطن وتقوية مكوناته وعناصر تحققه في سلوكه اليومي، ونقله من حيز الممارسة الوقتية المزاجية إلى كونه سلوكا حياتيا وعادة يومية تبصر المواطن بكل الخطوات التي يجب أن يتجه إليها في معالجة حالة التأزم التي يعيشها مع الجائحة، والظروف التي تشوه صورة جماليات الحياة وتعكر صفوها أمام ناظريه، لذلك يصبح الحديث الممنهج والموضوعي حول الصحة النفسية والبدنية وفق نواتج التطبيق ودلالات الشواهد خير أنموذج لامتلاك المواطن لمهاراتها وقيمها، بما يعنيه ذلك من أهمية تأطير هذه الثقافة وإيجاد التشريعات الداعمة لها، وتنشيط دور المستشفيات ومراكز الصحة النفسية ومراكز اللياقة في تقديم برامج وطنية متكاملة عبر التطبيقات الذكية والبرمجيات والاستغلال النوعي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز استمرارية صحة المواطن النفسية والبدنية حتى في أثناء جائحة كورونا (كوفيد 19).
المصدر: اخبار جريدة الوطن