الحادي عشر من يناير لعام 2020 يوم السبت الحزين، ما أثقله من صباح وأتعبه من يوم، في غمامته السوداء، وأصواته المزعجة، فقد بتنا ليلة الجمعة نتقلب فيها في الفراش، غير قادرين على النوم، نفكر، نتأمل، تأتينا الهواجس، تبعدنا تارة عن الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها كبشر، وتقربنا أحيانا من واقع الأمل، تنسينا قدرنا، وتصحح مسارنا، تبحر بنا في أعماق الحياة، وفلسفة الوجود، وتضع في مخيلتنا هاجسنا الذي نعيشه منذ شهور في مرض مولانا السلطان قابوس، خوفا من أن يراودنا التفكير بأي سوء حول حياة السلطان، فإذا بها تقربنا أكثر من حياته وصحته، ومرضه وسقمه، حالة الطوارئ التي كانت منذ عصر الجمعة تعني خطبا جديدا، وأمرا عظيما، وقدرا مكتوبا، وصباحا مرعبا، وتوقيتا مفزعا، وأن وراءها حدثا مفجعا وأمرا مزعجا، وخطبا جسيما تأبى النفس الرضية أن تتقبله بسهولة مهما أوتيت من قوة الإيمان واليقين، فهي النفس البشرية الضعيفة، التي لا تمتلك من الأمر شيئا، والأمر كله لله. كل الخيالات كانت تحاول أن تسلبنا القوة وتضيق علينا الأمل وتسلبنا الإرادة وتعكر مزاجنا بأفكار سلبية، حتى جاءت الساعة الرابعة وبضع دقائق ساعة الصفر التي وددنا عدم سماعها بحق وليتها لم تحن، حتى كانت كالصخرة علينا من شدة ثقلها، وكآبة أثرها، وضيق اتساعها، لتضيق بها الأنفاس، وتتلعثم الكلمات، وتخرس الألسن، فلقد أيقنا في كل مرة بأن السلطان بخير، وأن الله شافيه ومعافيه من كل ضير، غير أن المشيئة الإلهية أبت إلا أن تسترد الأمانة التي أودعتها لعمان، أمانة السلطان قابوس السلام، بعد أن أدى رسالتها بصدق، وقام بها خير قيام، وعد فصدق، وأنجز فحقق، ورسم للدولة معالمها وحدد أهدافها ومبادئها، ومعالم الحكم فيها حتى اتضحت أمور الدولة بأكملها، وتأسست دولة القانون ونهضت دولة المؤسسات، وعبر النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/96)، الذي حدد معالم الدولة، وبين مسارها وموجهات عملها ونظام الحكم في عمان، انطلاقا من المبادئ والأخلاقيات والأعراف والقيم والثقافة والتاريخ والمواقف العمانية الأصيلة التي رسمت خريطة التوجه وحددت أدوات العمل، وأطرت مسيرة الإنجاز وأغلقت الباب أمام كل الدعوات التي تحاول النيل من نسيج عمان الوطني ورابطتها القوية، حتى أذن الله أن يأخذ أمانته من بينكم أبناء عمان الأوفياء ويأخذ جوهرتكم التي تحبون، وروحكم التي تعشقون، وسلطانكم الذي تفدونه بالروح والدم.
لقد نزل الخبر علينا كالصاعقة، فخلف ذللك القلق علامات ودلالات لا نعلمها نحن ولا ندركها، رحمة من الله وفضلا وكرما منه وعفوا، ما أصعبه على السمع، وأثقله على البصيرة، وأظلمه على الأعين، فها هو وطني ينكس أعلامه بفقيد سيده ومولاه وسلطانه وسنده، الحكم العدل، الناصح الشهم، الحكيم الرحيم، الأب القائد، السلطان المبجل، المعظم المجل، ويسدل ستار حقبة من تأريخه الشامخ عطاء وفخرا، وسلاما وأمنا، بعد أن ظلت شامخة لخمسة عقود عزة ورفعة وسموقا ومهابة، في يوم محزن وصباح مثقل بالهموم والأحزان والآلام والأوهام، مخيف في قدومه، صعب في تقبله، يحمل علامات الحزن، وعام بدأ لتوه تطل فيه على وطني غمامة سوداء كئيبة، ترفرف على جنبات وطني، أحزان مثقلة، ودموع منهمرة، وأوجاع مؤلمة، أخذ فيها الموت من أحببناه صدقا وعدلا، فكان لها أبا وقائدا، ومربيا وناصحا، وأمينا على أبناء الوطن ومنجزاته، يوم لن ينساه التاريخ، الذي ظل ماثلا أمامنا منجزات عظيمة وعطاء مستمرا، ونهضة راسخة، وحضورا لعمان في كل المحافل الدولية، بأبي أنت وأمي مولاي صاحب الجلالة ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا.
رحل سلطان السلام، شموخ المجد، وعزة الوطن والمواطن، رحل سلطان الإنسانية والعدالة، رحل رجل المبادئ والمصداقية، رحل سيد عمان وبانيها وحاميها ومليكها وسلطانها، رحل حكيم العرب والأمة والعالم، رحل سيدي ومولاي جلالة السلطان قابوس، فما أصعبه من حال، وما أفجعه من خبر، وأظلمه من سواد، وأغشاه من حزن، لنا نحن من عايشنا النهضة وتربينا في كنفها، وعشنا لحظاتها، وأدركنا مواقفها، صفقنا وفرحنا، طربنا وغنينا، تعلمنا وتخرجنا، توظفنا وعشنا حياة الأمن والأمان والسعادة والاستقرار، كانت كلماتنا فيه قليلة، تأتي هكذا تباعا بدون أي إعداد أو تحضير، فسرى في قلوبنا وشغاف نفوسنا سريان الدم في العروق، نردد اسمه “قابوس أبي” كما نردد بسم الله، ونقرأ” يا ربنا احفظ لنا جلالة السلطان “كما نقرأ سورة الفاتحة، والطفل من نعومة أظفاره ما كان له أن يعرف بعد ذكر الله والفاتحة إلا “أبشري قابوس جاء فلتباركه السماء”، ها هي الأيام تغير الحال، لتسلب منا مولانا جلالة السلطان، كيف لا نبكيه وقد منحنا حبه، كيف لا نعشقه، وقد ملأ أرواحنا حياة جديدة، عشنا الأمل والصفاء، والحب والنقاء، والأمن والسلام، وارتقينا إلى حياة العظماء ونهج الكرماء، وعد بأن نعيش حياة كريمة فعشناها وتحقق لنا ما أردنا، كم كان رحيلك مولاي سحابة مظلمة تظلنا، وصخرة كبيرة تثقلنا، وحياة مريرة تقلقنا، كيف لنا أن نعيش في عالمنا المتلاطم الأمواج، عالم زاد فيه المتربصين بوطني، وأنت بعيد عنا، ما أصعبه من موقف، وما أتعسها من لحظات تشرق شمس هذا اليوم وهي تحمل غمامة سوداء، تقض مضاجعنا، وترهق مسامعنا، وتتفطر قلوبنا، لنصبح عاجزين عن القول، غير قادرين على الحديث، لا نعرف من أين نبدأ وكيف ننتهي، وماذا نكتب، وعن ماذا نتحدث؟
لقد ولد فينا رحيلك مولاي شعورا لا يحسدنا عليه أحد، فمن أدرك حبك من الصعب أن ينساه، ومن عاش عهدك يستحيل أن يتناساه، ونحن عشنا هذا الحب منذ ولادتنا، وعشنا حياتنا وأمانينا ننهل من فيض عطائك وكرمك وسخائك، وحبك وإنسانيتك، وعفوك وسماحتك، وفكرك النابض بعمان السلام والأمن والطمأنينة، كيف لنا أن نتصور رحيلك بعد أن تغلل فينا هذا الحب، وتربينا على هذا النهج، وتشربناه وعشناه واقعا ملموسا، حياة مترفة بنعيم الأمل والإيجابية التي كنت تمنحنا إياها، ونحن نقرأ ونكتب ونتعلم من سيرتك در الحياة ومواقفها محاكاة يومية وترجمة عملية، كنا نجد فيها السلطان قابوس حياتنا ومددنا، وأملنا وحبنا.
لقد نكسنا الأعلام بعد رفعها، وأظلمت الأرض بعد ضيائها، وغابت الشمس بعد إشراقتها، ما أصعب فراقك الذي أوحش وحدتنا، وزاد حنيننا إليك، ورغبتنا فيك، ونحن في ما نسطره من كلمات لا نعرف الكتابة بدونك، وليس لنا من حديث إلا بذكرك، فقد أشرقت حياتنا، وبنيت أمانينا، وها هو اليوم الذي أفزع قلوبنا وسلب أمنياتنا بفقدك، أين للكلمات أن تأتي وأنت بعيد؟ وأين للفكر أين يستمر وأنت حيث أنت عند مليك مقتدر؟ مولاي صاحب الجلالة نعزي أنفسنا وآمالنا وأحلامنا وطموحاتنا وسعادتنا بفقدك، ما أصعبه من أمر جلل، كالصاعقة التي تمر علينا فتسلبنا الحياة من بعد حياة، والأمل من بعد نجاة، والحب من بعد ود ونقاء وصفاء، كيف نستطيع أن نقول بأن مولانا السلطان قابوس قد رحل، وأطفالنا يرددون أبشري قابوس جاء؟ كيف لنا أن نسلب منهم هذا الاسم الشامخ وهم لا يعرفون من الدنيا إلا هو؟ كيف لنا أن نتصور فراقك ونحن ليس لنا من الحياة إلا اسمك وذكرك الذي يخالج قلوبنا ويصدح نفوسنا، ويفرح أمانينا، ويفرج كرباتنا؟ كان اسمك حياة، وذكر حروفك نبضا يلاطف أسماعنا، وهي أبصارنا التي ما فتئت تنظر إلى صورتك وهي معلقة في الأذهان قبل الجدران، تتأمل فيك، نراقب ابتسامتك وضحكتك، تشرح بها النفس، ويسعد القلب، ويضيء وجدان الضمير، وينهض بالهمم، ويسلي أنفسنا من همم الحياة ومصاعبها، وأنت تفتح لنا بعطائك أسارير الحياة، فعشنا بأمن وسلام واستقرار، عيش السعداء وسعادة الأنقياء الأصفياء.
لم نكن نتصور أن يأتي هذا اليوم المحزن، وجثمانك الطاهر يوارى من أرض وطني، هذا الوطن الذي أعطيته كل شيء، شبابك وطفولتك، وابتسامتك ووقتك وضحكتك، صحتك وعافيتك، منحته الحياة، فمرضت أنت من أجل الوطن، وتعبت من أجل سعادة أبنائه، وواجهت المصاعب والتحديات من أجل نهضة عمان في أصعب الظروف وأتعس الأحوال، حتى أخرجت عمان من حالة التمزق والتشتت وسواد الحياة وضيق العيش إلى أن أصبحت دولة عصرية، لها مبادئها الثابتة، دولة المؤسسات والقانون، دولة الأمن والسلام، دولة المبادئ الثابتة ومصداقية السياسية العمانية التي حازت ثقة العالم كله، وها نحن قد عشنا في ظل حكمك حياة الأمن والتقدم والتطور، الوحدة والانتماء لعمان، الرفعة والسؤدد والقوة، والتنمية والتطوير، والعزة والكرامة، وبعد خمسة عقود مضت وضعت فيها عمان في موقع مشرف وموقف مقدر من الجميع احتراما لجليل ما صنعت وعظيم ما أنجزت وترسيخا للعدالة التي أسست، زاد كل ذلك تعلقنا بك وحبنا لك، فعشقتك أرواحنا وأحبتك قلوبنا بلا كلل ولا ملل، فكنت لنا سيدنا كريما، أملنا وسعدنا، حياتنا ونهضتنا، تقدمنا وتطورنا، سعادتنا وهناءنا، راحتنا واستقرارنا، فما أعظم الخطب وما أثقله وأصعبه، تتفطر النفس وتحزن، وتبكي وتتألم، وتظلم الحياة وتسود.
وها نحن نفتقد طلتك سيدي بعد هذا اليوم، نفقد صوتك الذي يجلجل مسامعنا ويبهج خواطرنا، ويمسح أحزاننا، يدخل القلوب بدون مقدمات، وتتسابق له الروح بدون هتافات، وما عاد ننتظر ابتسامتك التي أحيتنا، وضحكتك التي أسعدتنا، ومشيتك التي رفعت قدرنا، وكلماتك التي أثلجت صدورنا، وخطاباتك التي استنهضتنا، ما عاد أن ننظر لشاشات التلفاز، ننتظر طلتك الشامخة الأبية، وما عدنا نتسابق إلى الشوارع التي تمر بها لنلقي إليك سلام التحية، فقد كان اليوم إيذانا برحيلك، إنه إيذانا برحيلنا أيضا في عالم مخيف وهواجس مظلمة، ومع ذلك سيدي تبقى حاضرا في حياتنا، قلوبنا، أفئدتنا، نتلمس ذكرك في طعامنا وشرابنا ووظائفنا ومهامنا وأعمالنا، وستظل عمان في قلوبنا ونفوسنا الحصن المنيع والشأن الرفيع، لقد تعلمنا منك أن حب الأوطان عمل باستمرار، ونهوض على الدوام، واستعدادا لبذل الغالي والنفيس من أجل عمان، وأن نسمو بفعالنا ونخلص لصلاح أجيالنا. لقد كان لنا النجاح بحكمتك، وحققنا الريادة في العالم بعبقريتك، وكنا الحصن والاحتواء لإخواننا وأصدقائنا الذين ضاقت بهم السبل، وأنهكتهم الحرب وفرقتهم الديار، بإنسانيتك وطموحك لرؤية عالم يسوده الوئام، ويعيش أفراده حياة السلام، ستظل في قلوبنا سيدي صاحب الجلالة السلطان قابوس، فقد اخترت لنا حياة العزة والكرامة والألفة والوحدة، فعشنا بحمد الله آمنين، منعمين مسرورين، لقد أحببناك سيدي وسنظل خالدا في قلوبنا بحبك رغم رحيل جسدك الطاهر عنا … نقولها بأعلى أصواتنا ونرددها حتى تنشف حناجرنا، فهو شعارنا منذ أن ولدنا، وسيظل كذلك، لن يغفو عن ألسنتنا لحظة، بل تظل كلمات مصدوقة بالعمل ونبل الخصال. فقد عرفنا في حبك سيدي معنى الشموخ والتضحية في سبيل الواجب، وقوة الإرادة لبلوغ الحق، علمتنا الإيجابية ومنحتنا الثقة في قدراتنا، والحكمة في أفعالنا، فعشنا بوعي، وتعاملنا مع الحياة بصبر، وها نحن نتحمل بعدك عنا اليوم بالرغم من قسوة الفراق وصعوبة البعاد، شوقنا إليك وتلهفنا لرؤيتك، ولكن قضى الله أن تكون في جناته، فلقد صدقتنا الوعد وعشنا أباة كراما، أحببنا العالم كله بحبك سيدي جلالة السلطان قابوس، فكان لك ذكرا طيبا في العالمين. وشكرا وسلاما في الأولين والآخرين.
ها نحن اليوم نودعك وداع النهاية، وداع الأبطال والشهداء، وداع مرحلة أسدلت فيها الستار على ابتسامة صدق ستظل مشرقة في جناة الخلد، بينما هي تغيب عن حياتنا الجديدة، لقد أغلقت برحيلك مددها، فعزاؤنا في الكبار والصغار، آبائنا وأمهاتنا، أبنائنا وبناتنا، عزاؤنا في أنفسنا، لننكس الأعلام ونطفئ الشموع بموت رجل السلام وحكيم الأمة وسلطان الإنسانية، فكم هي قلوبنا تتفطر ببعدك، وأعيننا تقطر دما بفراقك، فأنت حي في قلوبنا، وسنبقى على العهد أوفياء لعمان مخلصين عاملين موفين بالعهد الذي قطعناه من أجل وطننا، وستظل كلماتنا فينا بحب عمان والإخلاص لها والوفاء لهذا المنجز الوطني طريقنا الذي نسلكه ما حيينا أبد الدهر.
ومع قناعتنا بأن الحياة والموت سنة الله في الخلق، ما كنا ندرك ذلك فيك، فأمرنا لله ومردنا إليه واحتسابنا أن يجعلك ربي مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأن يتغمدك ربي بواسع رحمته في الفردوس الأعلى من الجنة، رحمة الله على بدنك الطاهر مولاي، وأدخل روحك الجنان، و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.
المصدر: اخبار جريدة الوطن