الأيام التاريخية المشهودة في ذاكرة كفاح الأمة العربية كثيرة ومتعددة، وفي مايو عام ١٩٤٥م كانت قصة أخرى من قصص الكفاح الجزائري، وذلك استكمالا لما بدأه الأمير عبدالقادر الجزائري في القرن الثامن عشر، فقدمت الجزائر حتى نالت الاستقلال مليونا ونصف المليون من الشهداء في سبيل أعظم قصة تحرير وطنية في العصر الحديث .
بداية سنوجز للأجيال العربية ماذا حدث في تلك المرحلة التي سبقت استعمار الوطن العربي، فالدولة العثمانية التي بسطت سيطرتها على المشرق العربي خلال أربعة قرون بدأت تتراجع وتضعف لتتساقط ولاياتها العربية واحدة تلو الأخرى، بل إن الدول الأوروبية وقعت معها عددا من الاتفاقيات التي قلصت حدودها الحالية لتبقى في الأناضول، ومع نهضة أوروبية بوتيرة متسارعة سبقتها كشوفات جغرافية وتمدد الأساطيل الأوروبية في مختلف أنحاء العالم، وفي مقدمتها الوطن العربي الذي كان يمثل الجوار التاريخي لأوروبا، وللأسف عاش أسوأ عهوده في فترة سيطرة الدولة العثمانية بسبب حالة العزلة والانغلاق والقبضة الحديدية التي فرضها الولاة العثمانيون بأوامر من الباب العالي، ومنع التواصل مع أوروبا التي كانت تعيش مرحلة نهضة صناعية فاستفادت مما سبق من علوم وعلماء كان جلهم من العرب والمسلمين، لذا فقد بقي المشرق العربي تحت هيمنة وقبضة الباب العالي، وعندما استقل الوالي العثماني محمد علي باشا بمصر وأراد ضم الشام والجزيرة العربية اجتمعت الدول الأوروبية للقضاء على هذه الدولة العربية الصاعدة في مهدها لتبقى في مصر فقط وتم احتلالها هي أيضا فيما بعد .
أما قصة احتلال الجزائر فهناك سبب ظاهري وهي قصة الوالي الجزائري الداي حسين وما تم الترويج له حول قيامه بصفع السفير الفرنسي عندما طالب الداي حسين فرنسا باسترداد ما عليها من ديون ضخمة، فجاء رد السفير الفرنسي مستفزا فسوقت هذه القصة وتم حصار الجزائر لتسقط العاصمة الجزائر في عام ١٨٣٠م، والحقيقة الاستعمارية هي تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية بعد أن أصبحت تسمى “الرجل المريض” والذي أدى إلى استعمار كامل الوطن العربي، وهكذا هي العلاقات الدولية بين الدول من منطق القوة بهدف السيطرة على ثروات الشعوب، وكان المشرق العربي يمثل المنطقة الرابطة بين الشرق والغرب، ومن خلالها تتحرك الملاحة الدولية بين أوروبا والهند والصين وأسواق آسيا، إضافة إلى الثروات الطبيعية والزراعية والبشرية التي تمتلكها المنطقة العربية، وهنا أيضا لا يغيب عن البال تاريخ الحملات الصليبية .
وعودا على بدء فبعد مرور عامين من احتلال الجزائر انطلقت ثورة الأمير عبدالقادر الجزائري ١٨٣٢م والذي كبد الاستعمار خسائر فادحة، بل استطاع استعادة مساحات كبيرة من غرب الجزائر وسجل تاريخا نضاليا عظيما في تاريخ الجزائر، فوقع الاحتلال الفرنسي معه اتفاقية وتم خرقها، ثم وقعت هدنة أخرى والتي تم خرقها أيضا بهدف إجهاض تلك الثورة والسيطرة عليها وصولا إلى عام ١٨٤٧م عندما قامت قوات الاحتلال بتطبيق سياسة الأرض المحروقة والسيطرة على المنطقة التي يوجد فيها رجال الثورة واعتقال قائدها الشيخ عبدالقادر الجزائري فتم سجنه في فرنسا وأطلق سراحه ليستقر في سوريا حتى وفاته في الـ٢٦ من مايو ١٨٨٦م ونقل رفاته إلى الجزائر في عام ١٩٦٥م .
بقيت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي أطول فترة استعمار في الوطن العربي، فاستفادت فرنسا من ثروات الجزائر الزراعية والطبيعية والجغرافية والبشرية، وأدخلت اللغة الفرنسية لفرنسة الجزائر، كل هذه الحقائق مسجلة في التاريخ، وجندت فرنسا أبناء الشعب الجزائري إجباريا فقاتل أبناء الجزائر في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية بعد وعود بمنح الاستقلال للجزائر بعد الحرب، والتي لم تفِ بها بعد ذلك، فبعد أن أعلن الحلفاء الانتصار في الـ٧ من مايو ١٩٤٥م من قبل الرئيس الأميركي ترومان ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرئيس الفرنسي شارل ديجول، انطلقت المسيرات والمظاهرات في الجزائر احتفاء بهذا الانتصار رافعين راية التحرير والاستقلال بناء على وعود سابقة بمنح الاستقلال باعتبار وجود أبناء الجزائر في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية، وفي هذا التاريخ الـ٧ من مايو ١٩٤٥م عمت المسيرات والمظاهرات مدن الجزائر وقراها، فقامت فرنسا في اليوم التالي الـ٨ من مايو باستخدام قواتها البرية والبحرية والجوية لقمع هذه المسيرات السلمية بشكل عنيف في مجزرة تاريخية بلغت (٤٥) ألف شهيد، وتقدرها بعض المصادر الخارجية بين (٥٠) و(٧٠) ألف شهيد، من هنا أدرك أبناء الجزائر أن طريق التحرير لا يأتي إلا عن طريق الكفاح المسلح لنيل الاستقلال، فبدأت الحركة الوطنية وجبهة التحرير الوطني الجزائري بتنوير أبناء الشعب الجزائري بأن الاستقلال لن يتحقق بالمطالبات السلمية، فبدأت المواجهات مع قوات الاحتلال الفرنسي واستمرت بين فترة وأخرى في حرب عصابات، إلا أن اشتداد ضراوة المواجهات بدأ في تاريخ الأول من نوفمبر ١٩٥٤م، وهو يوم الثورة الجزائرية والتاريخ الرسمي لحرب الاستقلال الجزائرية فاستمر ذلك النضال المسلح وبدعم عربي مدة (٩) سنوات كانت أغلب الهجمات تنطلق من الأرياف نحو العاصمة الجزائر، فعانت فرنسا من استنزاف هائل بسبب هذه الحرب، كما كان للدعم المصري بقيادة جمال عبدالناصر دور كبير في مسار حرب الاستقلال، حيث كان مكتب الحكومة الجزائرية المؤقتة في القاهرة، وانطلقت منها معظم النشاطات السياسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة، وكان أغلب التسليح يأتي من مصر وأولها كان تمويل صفقة سلاح بمليون جنيه، بالإضافة إلى ٧٥% من الدعم العربي المقدم من جامعة الدول العربية حتى أن بن جوريون قال: على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدروا أن “عبدالناصر” الذي يهددنا في النقب وفي عمق إسرائيل هو نفسه الذي يواجههم في الجزائر، فقامت حرب السويس أو العدوان الثلاثي بعد تأميم عبدالناصر قناة السويس وانسحبت دول العدوان بقرار دولي بعد مقاومة شرسة من أبناء مدن القناة وتجييش الشعب المصري والعربي لمواجهة العدوان، وعادت شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية خصص بداية ريعها لدعم الكفاح المسلح لثورة الجزائر، كما كان للملك فيصل بين عبدالعزيز أيضا دور في تسجيل قضية الجزائر في مجلس الأمن وتقديم دعم مالي للجزائر، بالإضافة إلى ما قدمته الدول العربية الأخرى في مرحلة من أزهى مراحل التاريخ العربي الحديث نالت فيها جميع أقطار الوطن العربي الاستقلال، وزرعت القوى الدولية الاحتلال الصهيوني في فلسطين بترتيبات دولية منذ وعد بلفور، وما زالت آلة التحرر مستمرة، وسيأتي اليوم الذي يتحرر فيه كامل التراب العربي. واستكمالا للنضال الجزائري اضطر الفرنسيون إلى منح الجزائر حق تقرير المصير عندما أعلن شارل ديجول في عام ١٩٥٩م أن للجزائريين الحق في تقرير المصير، لذا فقد تقرر موعد الاستفتاء على الاستقلال بتاريخ الأول من يوليو ١٩٦٢م، وتم الاستفتاء في ذلك التاريخ لتسجل نتائج الاستفتاء الغالبية العظمى لصالح الاستقلال، فاعترفت فرنسا مباشرة برسالة وجهها شارل ديجول إلى عبدالرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة للجمهورية الجزائرية باستقلال الجزائر، وتم اعتبار تاريخ الـ٥ من يوليو ١٩٦٢م اليوم الوطني لاستعادة السيادة الوطنية، وهو اليوم الذي سقطت فيه الجزائر بيد الاستعمار في عام ١٨٣٠م. لذا فقد تم استقلال الجزائر في نفس اليوم من عام ١٩٦٢م بعد كفاح عظيم قدمه أبناء الشعب الجزائري، فنالت الجزائر الحرية والاستقلال، وسبق ذلك التاريخ أن تمت كتابة السلام الوطني الجزائري بتأليف الشاعر الجزائري مفدي زكريا عام ١٩٥٦م، وتم إقراره الرسمي نشيدا وطنيا للجزائر بعد التحرير ويقول في بدايته (قسما بالنازلات الماحقات) ثم اتجه الشاعر مفدي زكريا إلى القاهرة في عام ١٩٦٣م ليقوم الموسيقار المصري محمد فوزي بتلحينه وإهدائه إلى الشعب الجزائري، كما أدى الفنان عبدالحليم حافظ أغنية بعنوان الجزائر تتحدث عن الثورة الجزائرية، وقام المخرج المصري بإخراج فيلم جميلة بوحيرد الذي يتحدث عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وثورة الجزائر.
إن قصة النضال الجزائرية بما حملت من إرادة وعنفوان وكفاح مسلح تعتبر من أعظم قصص النضال العربي في هذا العصر كتبها أبناء الجزائر بدمائهم في ذاكرة التاريخ العربي الحديث، وهي تقدم شهادتها للأجيال العربية أن طريق التحرير والاستقلال لن يتحقق إلا بالمقاومة والنضال، وهكذا قدم العرب خلال التاريخ سجلا نضاليا وتضحيات عظيمة فنالوا شرف الاستقلال.
المصدر: اخبار جريدة الوطن