زهير ماجد
عندما امتدت يده إلى أذنه، فقطعها، لم يكن الفنان فان كوخ قد أدرك أن ثمة طاقة في روحه تأبى أن تتوقف بل أن تزيد إلى الحد الذي يجعل منه كئيبا موجوعا، لا يتقاعد الفنان عن فنه ولا عن عبقرية مختزنة تخرج على اشكال مختلفة من التعبير، هو لا يملك القرار في ذلك، يصبح مأمورا لسلطة في الدماغ تميزه عن غيره، ولهذا فهو لايتقاعد، بل لا يعرف التوقف عن التفتيش عن كل جديد. الفنانون المجيدون يؤرقهم عدم التكرار، ولهذه الغاية يعيشون القلق المضني، يسافرون مع الافكار، يحاولون نسج طرق مختلفة .. العالم بالنسبة اليهم فكرة لمجموعة من المصطلحات التي يحمل كل منها عنوانا.
التقاعد في الحياة اعتداء على طاقة المرء في بعض الأحيان .. المبدعون لا يعترفون بها، اما الحكومات فترسم لها قانونا يذهب دائما بعشرات من المتقاعدين الى البيت، يجعلهم حيارى في حياتهم القادمة. ما أبشع الفراغ الممل الذي يحد عقل الانسان ويحمله على التفكير الدائم بما ليس ملائما له. قيمة العمل انه يبعد المرء عن اهل السوء، يسافر به الى مزيد من التجربة، يعطيه المال الذي يصون كرامته، ويقتل الوقت والزمن، الإنجاز الأهم في تعبئة الفراغ.
رؤساء الجمهوريات يتقاعدون، يصبح كل منهم رئيسا سابقا، تسمية لا يتنازل عنها كي يظل قيمة في عينه قبل الآخرين. اما الشاعر فيظل يتجوهر شعرا ولا يمل ترتيب الصور، ظل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري على ألقه الى ان جاوز المائة عام، كان حدثا دائما، اذا اردنا معرفة جزء هام من تاريخ العراق نلجأ الى شعره. سألته مرة عن تقاعده فأجاب بسرعة ” حتى الموت”، فهمت ان الطاقة التي بداخله وتجربته الشعرية تعني الحياة.
عندما تقاعد والدي اصابه المرض، في اليوم الثاني من بداية تقاعده عجز عن القيام من فراشه وهو من كان ممتلئا قوة ونشاطا، لكنه حتما تجاوز المسألة بعد فترة من الزمن .. عندما يدخل جديد مختلف مفاجىء في عالم الانسان يخربط افكاره وجسده .. النمطية تبقي المرء متجانسا، ولهذا قليلون هم المبدعون الذين يتجاوزونها.
التقاعد سمة انسانية يحتاجها الانسان في عمر محدد تحدده قوانين كل بلد وإن كان متفقا عليه انه خلال سنوات من سني ما فوق الستينات. لكن فكرة التقاعد غير مرحب بها عند كثيرين ، في زمننا الحالي، وبعد ان تمكنت الادوية والطبابة من تطويل عمر الانسان ، اضيف اليها قدرات جسدية جديدة فيها بعض القوة المخبأة من اجل سنين قادمة. من هنا نرى شبابا في اعمار لا يمكن ان تكون مثلا قبل عشرات السنين او في قرون مضت. العالم يخترع، سعيه ان يطيل من عمر الانسان قدر الامكان على اساس الاستمتاع بما هو متاح في الحياة من ملذات، فكر المخترعون انه يمكن ايصال عمر الانسان الى اكثر من مائة عام، لكن المسألة الجوهرية كيف يمكن السيطرة على جسد بلا امراض .. ثمانون سنة بلا امراض افضل من مائة واكثر مع امراض.
التقاعد اذن مرحلة جديدة في حياة من يمارسون عملا حكوميا او خاصا ، لكنه ليس ذكرى في حياة كاتب او فنان او شاعر او رسام او موسيقي او …. المبدع لايعترف بالارقام، وهو في عمر متقدم ظل دافينتشي يلون ويرسم ويحلم، ومع انه لم يعش طويلا، قهر بيتهوفن مرضه وقدم اجمل الالحان، وكذلك مثله موتسارت الذي مات في سن مبكرة لكن اعماله ضجت بها البشرية. لا اذكر ان عملاقا من هؤلاء تذكر الشيخوخة على لسانه بقدر ما قالها في اعمال لأنها من طبيعة الحياة ذاتها .. فالحياة ولادة وفتوة وشباب وتقدم في العمر ثم شيخوخة وهرم وموت. كل من هو على الارض تنطبق عليه تلك الفكرة وحتى النبات والشجر والحيوانات.
انا مثلا لا اجد فرصة للتفكير بمسألة التقاعد .. الكتابة موعد يومي، يظل القلم في اليد الى ان يسقط لحظة الاغفاءة الاخيرة .. طلب ميخائيل نعيمة من قلمه ان يمهله وقد كان على عتبة المائة، لم يرض ان يسقط من يده رغم انها لم تكن ترتجف، عندما قابلته لاسباب تلفزيونية، قال لي ان عمره يرتبط بالأبد وبالأزل وليس بعدد السنوات التي يمضيها او تسجل عليه في سجلات الدولة.
الدول ترى في مواطنيها ارقاما تولد واخرى تروح، عندما تفكر الدول بخطط مستقبلية مبنية على اعداد مواطنيها وما سيكونون عليه، تلجأ الى حسابات عددية، لافرق بين مواطن وآخر، بين كاتب كبير وعامل، بين مبدع وعاطل عن العمل .. الكل سواسية لكي تصل بدراستها وخططها الى الفهم الصحيح لطبيعة المجتمع. مثلا تعرف مستشارة المانيا ميركل ان نسبة الوفيات في المجتمع الالماني اكثر من الولادات، وانه خلال العام 2030 سينقص العدد من 82 مليون مواطن الى 56 مليون مواطن .. مجرد هذه الارقام ينتج هلعا لايمكن تصوره .. عندما وصل الجنرال ديغول الى حكم فرنسا كانت كذلك نسبة الوفيات اكثر من الولادات، فأقام على الفور ضمانات بالجملة غيرت خلال وقت تلك النسبة الى ان تقدمت الولادات .. في معظم اوروبا اليوم خطر داهم بعد سنوات شبيه بما يحصل لالمانيا، ولهذا يرحب الالمان بالقادمين من اللاجئين السوريين.
اما في العالم العربي فاعتقد ان لديه فائضا من الولادات، نسب الشباب في مجتمعاتنا كبيرة، فماذا يفعل المخططون مهما خططوا .. كان الصحافي محمد حسنين هيكل يقول ان بامكانه معرفة ما سيحدث لبريطانيا بعد ربع قرن فيما لايعرف ماسيحدث في بلاده غدا .. بمعنى ان لا خطط مستقبلية في بلادنا العربية، وان وجدت فلن تكون علمية وقادرة على تقديم اجابات صحيحة مائة بالمائة. فمن يضمن مصر على سبيل المثال وقد وصل تعدادها السكاني الى تسعين مليونا مثلا .. من يمكنه ان يفهم ما جرى في سوريا التي كانت ستة ملايين في الستينات، فاذا بها اليوم فوق العشرين مليونا. في الصين اليوم قرار حكومي جوهري بمنع الولادات الكثيرة او المتعددة، بينما في الهند مازالت المسألة متروكة للزوجين ساعة الغضب وساعة الرضا.
كان نجيب محفوظ محترفا في تنظيم وقته، متى يكتب ومتى يتناول قهوته في مقهى محدد ومتى يمشي كي يحافظ على بنيته ويحارب مرض السكري الذي لازمه منذ ان كان عمره 22 عاما. ومع هذا عاش فوق التسعين، ظل مرجعية لكل من يأتيه ليسأله في الثقافة والادب والسياسة وكل الاختصاصات .. لم يشعر يوما ان قلمه سيتقاعد، لاشك ان اعماله التي كتبها في سن متأخرة مليئة بأفكار متقدمة، كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يتمنى لو انه لم يكتب في سن مبكرة لأن افكارا مختلفة طرأت عليه في سن متقدمة، الثقافة والخبرة والحوارات مع البشر تولد في ذات المبدع ماهو كل جديد في عالمه.
المتقاعد اذن انسان فقد عملا مع انه قد يكون قبض مبلغا من المال يكفيه سنوات عمره، الا ان طبيعة المرء يخاف الفراغ، من كان يعمل ساعات في اليوم لايمكنه ان يجد نفسه مرميا في مقهى يومي يلعب النرد او يدخن الشيشة .. من عادة المتقاعدين اللقاء في مقهى محدد، يتذكرون فيها ما سلف من اعمال ومفارقات، يضحكون على بعضها ويتألمون لبعضها، ويسخرون من اشياء مضت. الذاكرة المفتوحة جلسة المتقاعدين، في كل يوم ترداد لما قيل في اليوم السابق .. قال لي متقاعد مرة سأشتري اجمل الثياب لأشعر نفسي باني مازلت شابا ، اما آخر فاعتبر ان لا نفع لأي شيء بعد ترك العمل.
لكن الحياة تمضي، عنوانها الدائم ان لا وقوف على الاطلال لأن ليس لها سوى الزمن .. الانسان هو من له اطلال ، من يتذكر ، من ينفعل ، من يتأمل حتى وهو على فراش المرض والموت .. اما الحياة فلا ميدان فيها ، الانسان من يخترع الميادين ليبارز آخر قهره في علم او معرفة او مال او في حياة اجتماعية … اوصى والد بطل رواية ” سارتوريس ” لفوكنر ابنه بان لا يبارز احدا لأن الحياة بلا ميدان ، ثم اعطاه ساعة بلا عقارب لكي يشعر بالزمن وليس بالوقت فقط.
الدنيا على بساطتها الا انها افعال مركبة، والانسان بطبعه ميال الى الصراع ، فنجد ذلك في طبيعة حياته الاجتماعية وخصوصا العلاقات بين الاقارب .. الكل يريد ان يشد النجاح الى جانبه والثراء في الطليعة والعلم ان امكن .. والانسان ايضا يحكم ذاته بالتظاهر بالملبس وبطبيعة ما يمتلك من سيارة مثلا او نوعية منزله الذي يبنيه على قاعدة ليس حاجته احيانا بل ليبز قريبه بمنزل اكبر واجمل.
لو فهم الناس بساطة الحياة لما تقاتلوا او حسدوا او افترقوا لاسباب ، ولما نكلوا ببعضهم اجتماعيا .. لو عرفوا انهم جميعا سواسية في طبيعة مراحل حياتهم وان الموت محتم عليهم، لاخرجوا من ذواتهم كل مايسيء الى مسيرتهم .. يمكن لاميركا مثلا ان تظل محترمة ومهابة ان هي لم تمارس قوتها وحكمها الجائر على الشعوب والدول الضعيفة ، لكن طبيعة القوة الزائدة لاتسمح بذلك.
يجب ان لا يعني التقاعد نهاية العالم .. عندما يعمل المرء في المؤسسات عليه ان يعرف انه سيأتي اليوم الذي سيقال له فيه لقد ازف موعد نهاية عملك .. كما عليه ان يعرف ان لحياته نهاية مثلما لها بداية . اذا عرف ذلك ، فاعتقد انه سيلجأ الى عالمه الخاص ، سيكون الانسان الآخر مجرد رفيق له في الدرب الواحد ، وان قانون القرابة محتم يجب ان يجعل منه طريقا للتحابب وليس لأي امر آخر.
قصر العمر لايحتاج لكل هذا التنابذ والمبارزة الخاسرة سلفا .. حتى الذين يعتقدون انهم نجحوا ، والنجاح دائما يعزى للثراء ، فلسوف يكتشفون ان المال يشتري كل شيء لكنه لايصنع السعادة ولا الضمير كما انه لن يغير من شخص المرء شكلا ومضمونا . واجمل انواع العيش هو العيش البريء غير الملوث الطاهر النظيف.
زهير ماجد