لفيف من شعراء الضاد، وفي قصائد بليغة، ولغة مؤثرة، ووصف دقيق، تستحوذ على مشاعر المتلقي فيتفاعل معها بحس صادق وشعور إنساني عميق، عبروا عن الأحداث المروعة التي قلبت حياتهم رأسا على عقب فلم تعد الأمور بعدها كما كانت قبلها، وتبدل أحوالهم عند استقبالهم للعيد أو حلول العيد عليهم، فأصبحوا عاجزين عن الاستمتاع بأنشطته ومباهجه، فهم في كدر وضيق من تغير الزمان، كفراق الوطن، أو وقوعه في يد مستعمر أو نظام دكتاتوري ظالم ـ ضعف وتهاون الأمة وتخلفها ـ فقر مدقع وهوان وذل بعد نفوذ وغنى وملك ـ فقد أحبة لم يعودوا يشاركونهم السعادة بالعيد فانقلب الفرح إلى غصة ـ المرض المزمن… والزمن في حالة حراك ونشاط لا يبقي الواحد منا على صورة ثابتة، والأوضاع في تغير وتلون، والدنيا تعتريها أهوال وأزمات ونكبات وأحداث عظيمة، تنكد صفو الإنسان، وتسلب المجتمعات ازدهارها، وتفرض قيودا وتبعات ومسؤوليات تنغص هناء الأيام، وتكدر بهجة الأعياد ولقاءات الأحبة، مثلما هو وضعنا اليوم مع جائحة كورونا المزلزلة وأضرارها العميقة على مختلف البنى الصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد تضمن الشعر العربي صورا معبرة للأعياد التي بإقبالها تحفز الذكريات وتثير الأشجان والأسى على ما ألقاه الزمان من محن وآلام على الشاعر أو أمته أو وطنه جعلت من العيد مناسبة كسيفة لا بهجة تصحبها كما هي العادة، ولا سعادة ولا شعورا يلامس الروح بقيمتها واستثنائيتها… ومن أبرز الشعراء الذين تناولوا العيد من جانبه الحزين: أبو فراس الحمداني الذي هل عليه وهو في سجن الروم أسيرا بعيدا من الأهل والأحباب يستشعر الوحشة، فقال مخاطبا العيد :
“يا عيدُ ما عُدتَ بِمَحبوبٍ * عَلى مُعَنّى القَلبِ مَكروبِ. يا عيدُ قَد عُدتَ عَلى ناظِرٍ * عَن كُلِّ حُسنٍ فيكَ مَحجوبِ. يا وَحشَةَ الدارِ الَّتي رَبُّها * أَصبَحَ في أَثوابِ مَربوبِ. قَد طَلَعَ العيدُ عَلى أَهلِهِ * بِوَجهِ لا حُسنٍ وَلا طيبِ. مالي وَلِلدهرِ وَأَحداثِهِ * لَقَد رَماني بِالأَعاجيبِ”.
ويعبر الشاعر حافظ إبراهيم عن مشاعره تجاه العيد من زاوية خبير متمرس بالحياة، ينظر إليه من عدستين متباينتين فرح ومرح في مكان، ومآتم وبؤس في موقع آخر، فكيف بمن فقد حبيبه أن يشعر ببهجة العيد؟ :
“عيدٌ هُنا وَهُناكَ قامَ المَأتَمُ * مَلِكٌ يَنوحُ وَتابِعٌ يَتَرَنَّمُ. عَجَبًا أَرى تِلكَ الدِماءَ فَهاهُنا * دَمُ فَرحَةٍ وَهُناكَ لِلقَتلى دَمُ”.
أما عبد الرحمن العشماوي في قصيدته “عندما يحزن العيد” فلا يرى في العيد إلا ضياع وطن واستعباد أمة لم تستطع للأسف استلهام دلالات ومعاني العيد الحقيقية:
“أقبلت يا عيد، والأحزان أحزان * وفي ضمير القوافي ثار بركان. أقبلت يا عيد، والرمضاء تلفحني * وقد شكت من غبار الدرب أجفان”، إلى أن يقول: “من أين نفرح يا عيد الجراح وفي * قلوبنا من صنوف الهم ألوان؟ من أين نفرح والأحداث عاصفة * وللدمى مقَل ترنو وآذانُ؟ من أين .. والمسجد الأقصى محطمة * آماله وفؤاد القدس ولهانُ؟ من أين .. نفرح يا عيد الجراح وفي * دروبنا جدر قامت وكثبان؟ من أين .. والأمة الغراء نائمة * على سرير الهوى، والليل نشوان؟ من أين .. والذل يبني ألف منتجع * في أرض عزتنا والريح خسران؟ أين الأحبة .. لا غيم ولا مطر* ولا رياض ولا ظل وأغصان؟”، إلى نهاية القصيدة.
المعتمد بن عباد الملك الفارس، الذي عاشت أسرته حياة القصور والثراء والترف، كتب قصيدة مؤثرة لامست شغاف القلوب لما تضمنته من تصوير بارع لانقلاب الحال وتغير الزمان على الإنسان، وما يتعرض له من بؤس قاتم شأن ما حدث لأسرة ابن عباد، فما أن رأى زوجته اعتماد وبناته في حال يرثى لها وملابس رثة بعد عزة ورخاء، وهو في الأسر يوم العيد، قال شعرا يتدفق أسا وحرقة :
“فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا *فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا. تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً * يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميراً. بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً * أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرا. يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ * كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكًا وَكافورا. لا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ *وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا. أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ * فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا. قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلا * فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيًّا وَمأمورا. مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ * فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا” .
الشيخ العلامة سالم بن حمد الحارثي، استقبل أول عيد بعد فقد والدته التي غيبها الموت بدموع مدرارة ووجه حزين، فخاطبه بقصيدة تحتشد بذكريات أمه الحبيبة :
“أنا أبكي والناس في العيد سرورا * ما تراني وكيف ذاك العيد؟ ذكرتني أياما كانت لأمي * يسعد البيت عندها ويميد. ندخل البيت مشرقا بضياها * تشبه البدر في الضيا بل تزيد”.
إلى أن قال :
“أنت يا عيد منتهى الحزن عندي * ما سروري وذكر أمي يعود”.
أما المتنبي الذي أقبل عليه العيد وهو شبه أسير لدى كارفور في مصر بعيدا عن أولاده وأصدقائه ووطنه فقال شعرا ظلت الألسن تتغنى به وتتمثل أبياته في كل عيد يهيج الذكريات الحزينة:
“عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ. أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ * فَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُ”.
وإن مصابنا يا من “ملأ الدنيا وشغل الناس”، وأبهر شعره العقول، فانقادت له القلوب، وتعلقت به الأرواح، وحفر في الذاكرة الإنسانية تردده جيلا بعد جيل، واستحضرته الألسن في كل زمان ومكان، وحدث وواقعة، ومجلس ومحفل ومناسبة، أعظم بكثير من مصابك، كان شأنا خاصا بك، وحدثا لا يصيب أثره وضرره غيرك، وكان نتيجة طبيعية لشغفك وتعلقك بالولاية والحكم وتجشمك المشاق لبلوغها، أما اليوم فالبشرية بأكملها قد باغتها عدو شرس قاتل، يقف مترصدا متأهبا للانقضاض على أي جسم بشري سليم من قرين متوسدا جسده، قد يكون أبا أو ابنا أو زوجة أو أختا أو صديقا أو غريبا وصل إليه بملامسة شخص آخر… فأصبح الابن مرعوبا من مصافحة والده، والابنة من معانقة أمها، والزوج من ملامسة زوجته، والأقارب من أن يجتمعوا على مأدبة والناس في كل مجتمع من أن يحتفلوا ويبتهجوا ويقيموا الأفراح والليالي الملاح ويمارسوا عاداتهم وتقاليدهم في يوم العيد، أو أي مناسبة أخرى، قاد إلى إغلاق المساجد وإيصاد الجوامع وتعليق الأسواق… فأي عيد هذا الذي يأتينا في ظروف قاهرة وأوضاع مزلزلة فيه الناس معزولون في منازلهم، لا يستطيعون أن يهنئوا بعضهم بعضا إلا عبر الأثير وفي العالم الافتراضي، عيد بدون صلاته وخطبته المعروفة، وبدون احتفال وأهازيج وملابس جديدة. أيها العيد لقد حللت في وقت لم تعد فيه “الحياة كما كانت، الكل لزم منزله، يخاف الإنسان من مصافحة أمه وأبيه وصديقه وأخيه، أو القرب منهم بل وحتى زياراتهم، يهرب البشر من بعضهم البعض، فكورونا عدو شرس، وباء غير مرئي ولا يصل إلينا إلا على طبق من جسد بشري، فعلينا كي نحمي أنفسنا الابتعاد عن الناس، وكأننا في عالم ما بعد الموت، البعث الثاني “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه …” الآيتان ٣٤ و٣٥ سورة عبس. “من يستطيع التفكير في تقبيل شخص غريب، أو ركوب الحافلة، أو إرسال طفل إلى المدرسة، من دون شعور بالخوف من في إمكانه التفكير بالمتع العادية البسيطة من دون أن يحسب الأخطار المترتبة؟” ومع الظروف القاهرة واجراءات العزل التي نعيشها إلا أننا يمكن أن نتفاعل مع العيد وأن نبتهج به ونحن في منازلنا بصور عديدة، أن نستشعر البهجة والسعادة على إنجازنا فريضة الصوم، أن نستمتع بوجبة لذيذة نعدها بأنفسنا، أن نتواصل مع أسرنا وأقربائنا وأصدقائنا فنتبادل معهم التهاني والتبريكات عبر الاتصال الهاتفي ووسائل التواصل الأخرى، أن نسهم في التوعية بأهمية البقاء في المنازل، أن نخصص جزءا من مصاريف العيد المرصودة للمحتاجين لها، أن نواصل الدعاء وقراءة القرآن والصلوات ونسأله عز وجل أن يكشف هذه الغمة ويخلص العالم من شر هذا الوباء. أما ما يجب الالتزام به واتباعه فتحمل المسؤولية الوطنية بالبقاء في البيت وحماية أنفسنا وأسرنا وكل من نعرفه من هذا الفيروس القاتل، وأن نتعامل مع أيام العيد بلغة العقل، فنبقى في منازلنا، وأن نجعل من التفاؤل والأمل المشرق في مستقبل جميل ثقافة وعملا وأداء وتعودا، وسوف تنتصر البشرية بعون الله بالإرادة والعلم والصبر والتعاون على كورونا، وستعود الأعياد القادمة والعالم قد تعافى منه وأصبح حرا من كل القيود التي فرضها علينا.
المصدر: اخبار جريدة الوطن