أ.د. محمد الدعمي
”إن الحاجة “لشركاء معاناة “هي القوة الأساس التي تدفع باتجاه تأسيس روابط مشتركة مع مناظرين آخرين، حتى تتحول حزمة المتوازيات والمتطابقات إلى آصرة “أخوية” عابرة للمجتمع الغربي المضيف، آصرة لايفك رموز شفرتها سوى الذين يمتلكون مفاتيح من البصرة أو الجزائر، من القاهرة أو إربد.”
ــــــــــــــــ
إن التفاعلات النفسية التي تتبع ظهور ما أسميته بـ”أزمة الهوية” لدى المغترب في أوروبا أو أميركا الشمالية، غالباً ما تكون ذات طبيعة ساخنة وفاعلة، بيد أن أحداً من الغربيين لا يشعر بها ولا يقدرها لأنها تحدث في مدار سوى مداره في دواخل ذهنية مختلفة. بيد أن قدر اللا مبالاة نحو هذا الإنسان الغريب هو أن تحيله إلى نوع من الرفض، بل والتمرد أحياناً. في هذه اللحظة الحاسمة (أي لحظة الرفض والتمرد) يجد العقل المسلم المغترب هناك نفسه بحاجة لشركاء، مسلمين من دينه، أو مسلمين يشاركونه ذات المعاناة المنبعثة من أزمة هوية واحدة متطابقة في عالم مختلف، يذهب إلى الكنائس كل يوم أحد بدلاً عن التردد على الجوامع خمس مرات كل يوم . هكذا تتبلور الحاجة إلى الالتحام في “أخويات”.
إن الحاجة ” لشركاء معاناة ” هي القوة الأساس التي تدفع باتجاه تأسيس روابط مشتركة مع مناظرين آخرين، حتى تتحول حزمة المتوازيات والمتطابقات إلى آصرة “أخوية” عابرة للمجتمع الغربي المضيف، آصرة لا يفك رموز شفرتها سوى الذين يمتلكون مفاتيح من البصرة أو الجزائر، من القاهرة أو إربد. هكذا ينطلق البحث عن النظير أو المكافئ الذي يشارك المسلم المنقول ذات العواطف والإحباطات والتعقيدات والمخاوف المنبعثة من سؤال الوجود والتواصل في مجتمع مختلف. هي مسائل قد تبدو لنا، في مجتمعاتنا العربية، يسيرة وممكنة التجاوز بسهولة، إلا أنها هناك (في الاغتراب) ترقى إلى التجسد خانقاً للإنسان المنقول، فهو لا يدري كيف يمكن أن يأكل ويشرب دون أن يخرق المحرمات المغروسة في دواخله منذ نشأ، ثم السؤال الأكثر همّاً، هو: كيف سيكون عائلة، وكيف سيربي أبناءه وكيف يحافظ على شرف العائلة من خلال حفظ أعراض أبنائه وبناته. هذه قضايا تبدو يسيرة التجاوز في ناظرينا، إلا أنها من المصاعب الشاقة التي عاشها وعانى منها ابناء الجيل الأول من المسلمين المنقولين لحواضن اجتماعية غربية غريبة.
هذه وسواها من التعقيدات التي يشترك بها آخرون، غير المنقول، من هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم فجأة في مجتمعات غربية، طوعاً أو قسراً، حسب التجربة الفردية. إن شراكة الإشكالات والتعقيدات لا تمر على المشتركين بها دون ملاحظة أو دون آثار، فهي شراكة تستحيل إلى آصرة أخوية تنطوي على موقف عدائي حيال المجتمع المضيف. هي آصرة تجمع شركاء الآلام والمعاناة؛ فهي تبقى تتفاعل وتقذف حمماً ساخنة في دواخل المغتربين حتى تصل مرحلة تجعلهم يفكرون في “الجهر” بها، بدلاً عن إخفائها. وطريقة الجهر بهذه الآصرة تأخذ مدياتها عندما يقدم المغتربون المسلمون طلباً رسميًّا لتأسيس للحكومة الغربية رابطة أو جمعية لرعاية شؤونهم والعناية بمستقبلهم ومستقبل أبنائهم. هذه هي الآصرة الرسمية التي تجيزها حكومات دول العالم الغربي، فلا بأس بوجودها، إذا كانت غير ضارة!
وثمة أواصر أخرى مبعثها التوازيات الاجتماعية أو اللغوية أو الدينية التي تبقى تتفاعل في الخفية لتمد جسوراً خفية لا تفلح الحكومات والمجتمعات الغربية بملاحظتها بسهولة، ومنها الأواصر الثقافية التي تنطلق أصلاً من نوع من النقد ورد الفعل الارتدادي يطوره المغترب المسلم ضد مجتمعات يراها متهتكة أو تخترقها الأمراض الاجتماعية والمادية والأخلاقية، أمراض يعتقد المشتركون بنقمة الاغتراب أنهم في منأى عنها بسبب هويتهم الدينية والقومية الصلبة الأصل غير القابلة للذوبان حتى تحت تأثير أقوى الحوامض. إن مشاكل من نوع التفكك الأسري والأدمان، والجريمة والشذوذ الجنسي والمخدرات تؤشر للوعي المسلم المغترب عدداً من الاختلالات التي تبرر له المزيد من التلاحم مع سواه من أقرانه المغتربين الذين يشاركونه ذات الوعي، وهو تلاحم قد يفضي إلى ما أسميته بـ”سايكولوجية الأقلية” في العالم الغربي، حيث تدفع مشتركات المشاعر والأفكار المركبة أفراد الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية إلى تطوير متلازمة “أديان الأقليات”، اي أديان الأقليات التي تشعر بالاضطهاد والضغط حتى وإن لم يكن ذلك الاضطهاد موجوداً أو مؤسساً من قبل الحواضن الغربية، الأمر الذي يقود الأقلية المسلمة هنا أو هناك إلى مباشرة العمل السياسي السري أو غير المرخص الذي كان وراء العديد من حوادث الفوضى والتخريب التي حدثت في العالم الغربي وكان خلفها شباناً مسلمين مهجرين في أغلب الأحيان. هم شبان أرادوا أن يجسدوا هوية عربية إسلامية نصف قومية، نصف دينية، تقول، وبصوت عال: “نحن ها هنا موجودون” ولا بد من الاعتراف بوجودنا وبإرادتنا وبعاداتنا وبتقاليدنا وطقوسنا الدينية، بل وحتى بلغة هذه الطقوس العربية.