إن انتشار نظريات المؤامرة وقت الكوارث والأزمات هو ظاهرة معتادة، وتتكرر دائما، وربما يرجع الأمر لأسباب نفسية وثقافية. يقول خبراء الصحة النفسية إن الناس تميل أكثر لتصديق الشائعات وقت الأزمات؛ لأن معظمهم تسيطر عليه مشاعر العـجز والارتـباك..
منذ ظهور جائحة كورونا “كوفيد 19” في مطلع شهر يناير من هذا العام في مدينة ووهان، ثم انتشارها في بقية أرجاء المعمورة لم تتوقف الشائعات حول حقيقة هذا المرض ومن يقف خلفه. ففي بداية ظهور المرض أخذت كل من أميركا والصين تتبادلان الاتهامات فيما بينهما حول مسؤولية تصنيع الفيروس ونشره حول العالم. ففي شهر مارس صرح مسؤول صيني كبير في وزارة الخارجية بأن الجيش الأميركي هو من جلب الفيروس إلى الصين وذلك أثناء مشاركته في دورة تدريبية بمدينة ووهان، في حين صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر من مرة بأن الصين هي من تتحمل كامل المسؤولية عن انتشار هذا المرض؛ لأنها تعمدت إخفاء بعض الحقائق المتعلقة بالجائحة، ووصل به الأمر إلى توجيه نفس الاتهامات إلى منظمة الصحة العالمية وهددها أكثر من مرة بوقف التعاون معها، وهذا ما نفذه فيما بعد. ونحن كمتابعين لتطورات الأحداث يمكن أن نفسر هذه الاتهامات المتبادلة بين الدولتين كمحاولة من كلا الطرفين لنفي المسؤولية وإلقاء اللوم على الطرف الآخر، وأيضا تأتي في إطار التنافس الحميم بينهما للتربع على المشهد العالمي. أذكر مثلا أن ترامب استهان كثيرا بالمرض في بداية الأزمة وادعى أن المرض ليس بتلك الخطورة وأكد مرارا للشعب الأميركي أن أميركا بمأمن عن المرض، وأنها تملك جميع الإمكانات للسيطرة عليه، ليتضح فيما بعد أن الأمر ليس كذلك، وأن المرض انتشر في أميركا كانتشار النار في الهشيم، ومع تصاعد أعداد الضحايا أخذ ترامب يغير من لهجته وبدأ يوجه الاتهامات تارة إلى الصين وتارة إلى منظمة الصحة العالمية ويحمِّلهما كامل المسؤولية.
أما إذا انتقلنا لمستوى الأفراد فإن الأمر لم يكن أفضل من ذلك، بل إن نظريات المؤامرة انتشرت كثيرا وأخذت أبعادا مختلفة، وسوف أتعرض بشيء من التفصيل لبعض تلك النظريات، محاولا تفسيرها وتحليلها، وأتمنى أن أوفق في ذلك.
أولا: ادعى البعض أن المرض ليس بتلك الخطورة التي يصورها الإعلام، وأنه يشبه إلى حد بعيد مرض الإنفلونزا الموسمية، وأن بعض الحكومات والمؤسسات الدولية قد أسهمت بشكل كبير في تهويل خطورة المرض، وهنا يمكن أن نقوم بمقارنة بسيطة بين مرض “كوفيد 19” ومرض الإنفلونزا الموسمية للتأكد من مدى صحة هذه المزاعم، فالإحصائيات تشير إلى أن مرض الإنفلونزا يصيب 32 مليون أميركي سنويا، وأن عدد الضحايا لا يتعدى 18 ألفًا، وهذه نسبة بسيطة، بينما يتوقع الخبراء أن “كوفيد 19” سيصيب الملايين حول العالم، وأن نسبة الوفاة فيه تتراوح بين 2 إلى 3 بالمئة، وقد تصل إلى 5% في بعض المجتمعات. وإذا افترضنا أن المرض سيصيب 33 مليونًا (نفس العدد) فإن أعداد الضحايا قد يتجاوز 900 ألف، وهو رقم مهول بالمقارنة مع ضحايا الإنفلونزا، كما أن معامل الانتشار في مرض “كوفيد 19” أو ما يسمى بـ(R zero) يصل إلى 4.5؛ أي أن كل مصاب يستطيع نقل العدوى بمعدل 4.5 أشخاص، بينما ينخفض المعامل لـ(R zero) في الإنفلونزا إلى 1.3، أضف إلى ذلك أننا نعرف الكثير عن مرض الإنفلونزا (متى يظهر وكيف ينتشر وطرق علاجه..). أما بالنسبة لمرض “كوفيد 19” فيظل مرضا غامضا لفترة، وما زلنا نجهل الكثير عنه. لذا فإن المقارنة بين المرضين ليست في محلها، وهناك اختلافات جوهرية من حيث سرعة الانتشار وأعداد الضحايا.
ثانيا: من النظريات التي راجت كثيرا أن المرض من صناعة شركات الأدوية التي تسعى لتحقيق أرباح خيالية من خلال اللقاحات التي ستقوم بتصنيعها خصيصا لهذا المرض، وهذه النظرية أيضا يشوبها الكثير من الإشكاليات، أقلها أنه من الصعب تصديق أن تقوم شركات الأدوية بهكذا مغامرة غير مسؤولة، فقد يتطور المرض بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وقد ينقلب السحر على الساحر، كما أن مؤامرة بهذه الخطورة يمكن أن تنكشف ولو بعد حين، وبالتالي ستصبح هذه الشركات في موقف لا يحسد عليه، وقد تتعرض لمطالبات مالية بالمليارات كتعويض عن الخسائر البشرية والمادية، بل قد يصل الأمر إلى حد تصفيتها ودخول أصحابها إلى السجون، أضف إلى ذلك فإن التجارب السابقة أثبتت أن الكثير من شركات الأدوية قد تعرضت لخسائر فادحة نتيجة استثمارها في صناعة بعض اللقاحات لأوبئة سابقة كوباء سارس الذي اختفى فجأة قبل أن تستطيع الشركات جني أية أرباح من وراء اللقاحات التي اكتشفتها، وذهبت الأموال الطائلة التي استثمرتها أدراج الرياح. هذا دفع الكثير من هذه الشركات إلى الإحجام عن الاستثمار في صنع لقاحات لمثل هذه الأوبئة التي عادة ما تظهر وتختفي فجأة.
ثالثا: انتشرت أيضا شائعات عن مؤامرة تقودها منظمة سرية تهدف إلى تخفيض تعداد البشرية وذلك لندرة الموارد الطبيعية، وتريد التخلص من فئات بعينها ككبار السن والمرضى والمعوقين بدنيا وعقليا. ومن الأشياء التي ساعدت على رواج هذه المؤامرة الفيلم السينمائي كونتجين الذي تم إنتاجه عام 2011، هذا الفيلم تدور أحداثه حول مرض تنفسي تحوَّل إلى وباء عالمي حصد أرواح الملايين. أحداث الفيلم تشبه إلى حد بعيد الواقع الذي نعيشه اليوم مع كورونا. هذا التطابق في الأحداث أثار استغراب ودهشة الكثيرين، وعزز من نظرية المؤامرة لديهم. في الحقيقة يمكن تفسير هذا التطابق إذا عرفنا مدى التقدم الهائل الذي وصلت إليه صناعة السينما في أميركا لدرجة أن المنتجين لفيلم كونتجين قد استعانوا بخبراء في مجال الأوبئة والصحة، هؤلاء الخبراء يملكون المعرفة الواسعة والدقيقة التي تسمح لهم تصور وتوقع أخطر الأوبئة التي تهدد البشرية وأماكن ظهورها وطريقة انتشارها، لذلك رأينا مثل هذا التطابق في الأحداث.. أيضا لو افترضنا أنها مؤامرة، لماذا يقوم أصحاب المؤامرة بكشف خططهم أمام العالم وذلك بإنتاج فيلم يحمل تفاصيل خطيرة تثير الكثير من الشكوك؟! هل هم بهذا الغباء؟!
من ناحية أخرى فإن مؤامرة بهذا الحجم تفوق إمكانات أية دولة عظمى، فكيف تستطيع منظمة سرية أن تقوم بتنفيذ مؤامرة بهذا الحجم؟!
رابعا: من النظريات التي راجت أيضا، ربط هذا الوباء بشبكات الجيل الخامس (5G) حتى وصل الأمر إلى حد مهاجمة هذه الشبكات وتدمير أبراجها كما حدث ذلك في مدينة برمنجهام؛ لتخرج الحكومة فيما بعد وتؤكد عدم صحة هذه الشائعات، وأن الموجات الصادرة من هذه الشبكات في مستويات آمنة ولا تشكل خطورة على البشر. ومما يدحض هذه النظرية انتشار الوباء في دول ومدن لا تملك مثل هذه الشبكات.
إن انتشار نظريات المؤامرة في ظروف الأوبئة والأزمات الكبرى ليس بجديد، ويتكرر دائما عبر التاريخ؛ ففي سنة 1350 ميلادي عندما انتشر الطاعون في العالم قادما من آسيا لاحظ الناس في أوروبا أن اليهود أقل الناس إصابة بهذا الوباء، فظن الكثير منهم أن اليهود هم المسؤولون عن نشر الوباء عن طريق رمي السم في مياه الشرب فأخذوا يلاحقون اليهود ويحرقونهم!!
وفي عام 2015 انتشر في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية وباء أطلق عليه اسم (زيكا) وكان ينتشر بواسطة البعوض، فزعم الكثير من الناس أن الوباء عبارة عن سلاح بيولوجي، وأن البعوضة مهندسة جينيا خصيصا لنشر هذا الوباء، كما أن هناك استطلاعا قامت به شركة يوجوف للأبحاث وجد أن 9% من الألمان وأيضا الفرنسيين، و16% من الإسبان يعتقدون أن فيروس الإيدز مصنع مخبريا من قبل منظمة سرية تريد السيطرة على العالم.
يمكن أن نقول إن انتشار نظريات المؤامرة وقت الكوارث والأزمات هو ظاهرة معتادة، وتتكرر دائما، وربما يرجع الأمر لأسباب نفسية وثقافية. يقول خبراء الصحة النفسية إن الناس تميل أكثر لتصديق الشائعات وقت الأزمات؛ لأن معظمهم تسيطر عليه مشاعر العجز والارتباك، ويحاولون أن يتمسكوا بأي تفسير يزيل عنهم تلك المشاعر المقلقة، كما أن هناك دراسات وجدت أن هناك أفرادا يشاركون في نشر نظريات المؤامرة وهم غير مقتنعين بها، فقط يفعلون ذلك لإيهام الآخرين بأنهم يمتلكون المعرفة والحقيقة التي لا يملكها الآخرون، وهذا يعزز لديهم مشاعر الاستقلالية والتفرد.
إن انتشار مثل هذه الشائعات في أوقات حرجة كالتي نعيشها هذه الأيام قد أدى إلى فقدان الثقة في خبراء الصحة، وامتناع البعض عن اتباع إرشاداتهم، وهذا سيصعب من الجهود المبذولة لمكافحة الوباء والتقليل من آثاره المحتملة، بل إن الأمر قد يصل إلى امتناع البعض عن تناول الأدوية واللقاحات التي يصفها الأطباء، وبدلا من ذلك يفضلون اتباع إرشادات بعض المحتالين والمدعين والتي عادة ما تؤدي إلى تفاقم المشكلة.
إن العديد من الدراسات التي قام بها الخبراء في مراكز مرموقة لتؤكد أن فيروس “كوفيد 19” هو فيروس طبيعي وغير معدل مخبريا.. أذكر ـ على سبيل المثال ـ تلك الدراسة التي نشرتها مجلة (نيتشر) العلمية والتي شارك فيها خبراء من جامعات أميركية وأسترالية وبريطانية معروفة والتي لم تتوصل إلى أي دليل على أن الفيروس تم صناعته مخبريا.
بعد هذا السرد يمكن القول إن المرض حقيقي وليس مجرد فرقعة إعلامية، ولذلك ينبغي أن نتعامل معه دون إفراط أو تفريط، وما أعنيه أن لا نهول من خطورته، وفي نفس الوقت علينا أن لا نستهين به، ونحرص دائما على اتباع إرشادات خبراء الصحة، ونبتعد عن الإشاعات الكاذبة التي قد تؤدي إلى إطالة أمد الجائحة وتفاقم من آثارها.
خالد الصالحي
المصدر: اخبار جريدة الوطن