انقرضت الديناصورات، فقد أغرها متانة قوامها، وضخامة بنيانها، وصلابة عضلاتها، لكنها تخلت عن العقل، وابتعدت عن الحكمة، فهاجت في الأرض تحطيما وتكسير وتدميرا، لم تترك في طريقها عمرانا إلا وأفنته، ولا بنيانا إلا وطوته، فكانت هدفا لكل خاسر، وعدوا لكل مجنيا عليه، فانتهت وبسرعة وتخلصت منها البشرية في أزمان متتالية؛ انقرضت وانتهت من الحياة، واندثرت من الأرض، لكن عاش النمل الذي عاصرها في القدم، وصاحبها في الحياة، ورغم صغر حجمه، وضعف جسمه، إلا أنه تغلب بعقله على هشاشة بنيانه، وقاوم ضعفه باتحاده، وانتصر على قلة حيلته بالنظام والعمل، فباتت مدن النمل ـ بل مساكنه ـ عالما من التحضر والتعاون والانضباط، لم يبلغها معشر الإنس.
أيها الإنسان، أيها المرشح للانقراض، أيها المنتخب للفناء، كم أغرتك قوتك، واختلت بجبروتك، فصرت كالديناصورات تعيث في الأرض فسادا، وتخترق أركان المعمورة تدميرا، لم يعجبك نظام الطبيعة، فتجرأت عليها، ولم يعجبك توازن البيئة فتفننت في تدميرها، لم تتخذ من النمل العظة، وأن الجميع أوراق في شجرة واحدة، وأن الجميع أصفار أمام ضخامة الكون، وأن للجميع نفس المصير مهما تباينوا، وأن من يخترع للحياة تزدهر للجميع الحياة، وأما من يخترع للشر فيرتد إليه، وإن تخيل غير ذلك. وأن من يصنع للموت لا بد أن يحصده الموت وإن تحصن، وأن من يصنع للفناء لا بد أن يفنى وإن تحرز؛ تلك هي قوانين الحياة، وتلك هي حسابات الطبيعة.
يا معشر الإنسان، قنابلك الانشطارية، وأسلحتك التدميرية، ومعداتك الحربية، واختراعاتك السواء، تقف الآن عاجزة أمام فيروس ضئيل جدا، لم يُرَ بالعين المجردة، فيروس تؤكد كل الدلائل أنه من صنعك، من أجل الاستحواذ والغلبة والسيطرة، لتضيف إلى جيوش قوتك التخريبية، جيشا بيولوجيا آخر من صنيع غبائك، وتاريخك أسود ومعلوم في الدمار والقتل، وتقف الآن عاجزا مشلولا ضعيفا أمام همجيتك، لم تقتنع أن الأرض للجميع، وأن موارد البشر متساوية، وأن خيرات الله مقسمة للكل، فقسمت أنت الأرض لعالم أول، من حقه أن يستنزف خيرات ما سموه “عالم ثالث”، فسرقوه ونهبوه، ولم يتركوه إلا للفقر والجهل والمرض، دمروا أراضيه كالديناصورات، التي لم تفرق يوما ما بين الهمجية وبين الإنسانية، ولم تتخذ من معشر النمل المثل والقدوة في التعايش والوئام.
يا معشر الإنس، يا من تفرقوا إلى عالم من السادة، وآخر من العبيد، جاءكم اليوم ما لم تحتسبوا له، من ضرب كبيركم قبل صغيركم، أولكم وثالثكم وآخركم، فقيركم وغنيكم، دولكم العظمى ودولكم غير العظمى، من يمتلك التقدم ومن أجبر على التخلف، لم يستثن منكم أحد، ولما ضاقت عليكم سبل الأرض، تلجؤون الآن لأبواب السماء، والتي تنحاز حتى الآن فيما يبدو لعالم “الغلابة” والمساكين، تنحاز لمن لا يملكون حتى ثمن الدواء، وآخرهم وصفة ليمون وزنجبيل وعسل، لم أتحيز ولم أبالغ ولكنها معطيات الواقع.
الجميع أصفار أمام كائن غير حي، يصارع الإنسان ويقاتله، حتى يتمكن من رئتيه، فيقضي عليه ويسلبه الحياة، وحتى إن تغلب عليه الإنسان، وأخذ فرصة النجاة سيصير كالنسر، الذي غرته قوته ومناعته، فلما شاهده سيدنا سليمان عليه السلام أراد أن يلقنه درسا قاسيا، فأخبره أن يسلط عليه الوهم، فجلس النسر أياما في انتظار الوهم ليصارعه، ولما عاد إليه سيدنا سليمان، سأله عن الحال؟ ورد النسر لم أرَ شيئا، فقال له أنظر لنفسك، وقد ساءت حالته، وتهدل جناحاه، وسقط ريشه، وبات أقرب إلى الموت، وهو حال معشر البشر الآن، الجميع في انتظار مصارعة الفيروس أسابيع وشهورا، بعدها ستعرف البشرية أن خسائرها فادحة؛ شركاتها أفلست واقتصادها تدمر، والملايين فقدوا أعمالهم، ومنظومتها الصحية أنهكت، وديونها تراكمت، إلى جانب ما خسرته من أفرادها.
سيعرف بعدها معشر البشر أن غالبيتهم أصفار، فمن صنع الوباء، ومن أغرته قوته والآن يصرخ، ومن استغل البشر، من اكتناز السلع ليتكسب من الأزمة، من يستغفل العالم ويرسل سفنا من الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، من انعدم ضميره للمتاجرة في أدوات صحية فاسدة، ومن انحط به الحقد والغل، لمهاجمة دول بعينها، وما زالت تسخر آلاتها العدائية للتشهير بها حال ظهور حالات مصابة بالفيروس، رغم أن الكارثة تطول الجميع، من استغل الأزمة لتغيير خريطة السياسة العالمية، من أنفق ماله على المجون والسفه، وشراء أقدام البشر للتناحر الكروي، تاركا عقول العلماء والأطباء الذين يعيشون على العوز والكفاف، نعم الجميع أصفار أمام الجائحة، وأمام أنفسهم إلا من رحم ربي.
المصدر: اخبار جريدة الوطن