حين يزهد قدر الكلمة التي هي السلاح الأبلغ إلى النفوس والضمائر والعقول.
حين نؤمن أن لنا مشارب جمة في الحياة، نهرول خلفها، ويبقى ميدان الكلمة شاغرا، له أنينه والعويل.
حين نأسف إذ لا نرى تعقيبا على حروفنا في حين كانت تحط على أزاهير معانينا آلاف الفراشات والطيور.
حين تشح قطرة السقاء في زمن الصبر والجفاف من إخوة كانوا لنا غيوما تسكب ودقها على القلوب فتثمر زرعا لا يصفرّ.
حين لا يسعفنا الوقت أن نمنح الأوراق نجوانا، والعمر يطحننا، والدهر ينسانا.
الكل مزحوم، الكل يركض خلف أمانيه، الكل مهموم، والقلوب تحن إلى فيء أينعته مدامع العاملين في حقول كلمة الخير، فإذا سنابله في كل سنبلة ألف حبة مباركة.
أنا لا أسمع إلا صفير الرياح، تمتلئ عيوني بذرات ترابها، فلا أملك إلا البكاء.
الكلمة قد تهدي حائرا، وتجبر كسر سائر.لمن يترك الميدان يا أهل القلم؟ لمن يا أصحاب الكلمة الطيبة؟
حين نتراجع، هناك من لا يتراجع وهو على باطل.
لم تتقطع أنفاسنا في دروب الخير؟!
لم لا يشحذ كل منا همة الآخر؟!
لم يعيننا المسير، وحادي الروح ينادينا: هناك الجنة.
لا تحزنوا وأشواك الطريق تمزق ثوب اصطباركم، ففي الليل نسيج آخر لكل القلوب التي عرفت حب الله.
لا تحزنوا عندما نفضت الأيادي ريشتها لتتحرر، وتأخذها دروب الحياة.
فموقع المجرة موقع مبارك، له نور كالمحاريب، شامخ القبة بسجودها المذعن لله.
له منارات تصدح بالحق، وله نبع لا يرتوى منه، فياض العطاء. هناك سواقيَ أخر، لكنه المعين الذي يتفجر نبعه كلما اغترفت منه يد وفيّ.
تجولت في ميادين شتى أراها عامرة بالحياة وألوان الجمال، وثبات المشرفين رغم غيابي وعوتي لسنين، رغم تويتر والفيس بوك وإخوانهم. ووطني, أين وطني؟ ساكن الأنفاس، يقتلني فيه السكون.
ما عاد يصافحني فيه الفجر فيمسح حزني، ولا أتلقى من شطآنه العزاء. تكاد تكتم أنفاسي صبرا، أين الذين عاهدوه على البقاء؟ وأنتم أين أنتم؟
أين أنت يا وطني،؟ أين سمّارك، والنجم يبعث رسائله النورية فتنعكس على وجوه وضيئات تتلألأ بالوضوء والصلاة والصبر على المسير؟
ما قيمة الحياة بلا إخوة يفجرون في روحك معاني العطاء، أتبقى حادِ بلا قافلة؟!
لمن تشدو؟ لصحراء ترجع وجيع النداء؟
رعاة الباطل ما ملوا ولا سئموا، فكيف لك أن تترك الميادين؟!
أواه من حزني يا ديني الأعظم.
أتريد أن ترى النور يعم الدنى وأنت لا تحترق؟! أتهبنا الشمس أنوارها دون تتأجج في روحها؟
آلاف تتيه، تعلقت عيونها بك، فهلا عدت.
قلوب ضاعت كنت نجما يهديها، وغبت في سمائك الخاصة، وأعيتها المراقبة، فما عادت تعرف الطريق.
أرواح صادية كنت تسقيها زلالك الصافي، أشرفتْ على موت زؤام، وأنت أنت تكمل مسير البُعْد.
الميدان يناديك، صدئ السيف يا ابن ديني من رطوبة الهجرة. وجفت العروق يا ابن ديني لأنك أويت إلى الراحة، تبحث عن درب لا شوك فيه!!
دورك خاوية، وأحلامك معلقة، حملتها السماء بعيدا، وعندما تعود تهديك من خيوطها النورية ما يعمر القلب يقينا.
صفير الرياح يبعث في روحي غضبة عظمى يا ابن ديني. أين كف عهدك أين؟ ودعاة الباطل توحدوا، وأنت أدبرت، لا تلتفت إلى الوراء رغم نزف القلوب الذي ملأ الطريق، تريد أن تحيا، والله يمحصنا بالألم والانكسار، والافتقار والعجز والوحدة، فهل وجدت ما تريد؟
يا حسرة نهشت فؤادي ألما. كيف توحدوا وتفرقنا؟! لا تنثني عزائمهم وهم يسعون للضلال، فأين عزائمنا تحيى الأمم؟ هل الحي هو الذي يأكل ويشرب وينام؟ أم هو من ينفخ في كل يوم روح حياة في الأرواح، يشعلها همة وتوقدا.
إنما تمتد أعمارنا بالعطاء، بالكلمة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
رحلوا عن الديار، واليوم نبحث عن حروفهم لنخلدها بعد الموت، فاغتنم حياتك، واجعلها ألف حياة يا ابن ديني.
لن تجدوا كمجرة الخير عنوانا، فيمموا مسعاكم إليها، وعودوا تشرق بعد ألم الحياة بكم.
أم عاصم الدهمانية