ابتهجت غزة بالنتائج الباهرة التي توصل إليها صبرها الذي دخل الخمسين يومًا، ولم تكن الشوارع التي امتلأت بالمواطنين الفلسطينيين المبتهجين من أجل إعلان وقف النار مع كيان الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل لصورة الصمود الرائعة التي ستؤدي حتمًا لتحقيق المآلات الفلسطينية بكل المطالب التي يتمسك بها.
إنها فرحة إذن أن ينتصر هذا الشعب الأبي الصابر المظلوم، لكنه أن يحصد بصبره ما سوف يتحقق هو المعبر لمرحلة جديدة. فليس غريبًا أن يشعر كل غزي بأنه صار قريبًا من القدس كما قال أبو زهري، بل ليس بعيدًا أن تصبح القدس على مرمى حجر وهي التي طالتها الصواريخ التي صنعت كل هذا الانتصار، وحققت نقلة نوعية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
ها هي غزة تقول كلمتها النهائية إن وقف النار لن يكون له قيمة إذا لم يكن متبوعًا بتحقيق مطالبها من رفع الحصار بكل أشكاله، إلى تسوية وضع المطار وتأمين الميناء البحري إضافة إلى الأراضي الزراعية وإطلاق الأسرى وغيره. علامات في الزمن الغزي المضيء تتحقق، انطلاقة قوة ثورية تصنع غدها بدماء شعبها وبثباته وبحجم الدمار الرهيب الذي ظن الإسرائيلي الجبان أن عجزه عن تحقيق أهدافه سيجد هذا الدمار تأثيرًا في نفوس أبناء القطاع. لكن غزة التي توحدت مع الشهادة نسجت من دماء أبنائها ملحمة صمود رائعة ستكون خلال المرحلة المقبلة انقلابًا سياسيًّا.
غزة أمس خرجت كلها إلى الشوارع في حالة عفوية تنم عن رضا ما صنعه الأبطال المقاومون في رسم طريقة جديدة للصراع مع العدو الغاشم. فبعد أن حاول ذلك العدو التوغل في القطاع خاب أمله بعدما تصدى له المقاومون ولقنوه الدرس الذي لن ينساه، لذلك كان أول فعل قام به أن سحب جنوده من المعركة وأبقى على طيرانه ومدفعيته، وذلك تعبير عن خوف ورهبة من المقاوم الغزي، بل هو تعبير عن تراجع مؤكد أمام السيطرة الميدانية للمقاومين.
خمسون يومًا من الصراع مبهج للنفس مهما كانت نتائج الدمار وأعداد الشهداء .. والخمسون تلك في عمر الزمان سيكون لها تأثير لأعوام وأعوام ، فليس في حسابات الصراع التاريخي مع عدو همجي ككيان الاحتلال الإسرائيلي أي حسابات لأعداد الأيام والسنين.
أما على الطرف الآخر، فيمكن القول إن نتنياهو وحكومته أصبحت تحت المساءلة بعدما قيل عن تأليف لجنة تحقيق إسرائيلية للتحقيق في قضية الإخفاق الذي حصل. وكما أسقطت فينوغراد حكومة أولمرت عام 2006م، ستقول اللجنة الجديد ما معنى أن يشن نتنياهو عدوانًا فاشلًا على قطاع صغير لم تستطع كل قواته أن تحقق نتائج ملموسة.
انتصرت فلسطين بانتصار غزة، غيرت غزة المعادلات بعدما قدمت مشهدًا رائعًا من الشهادة لم يسبق أن عرفناه في كل التاريخ العربي الحديث. فشكرًا لشعبها الأبي، وألف رحمة على شهدائها، وكل هذا الدمار على اتساعه لا بد أن يعاد بناؤه. المهم أن تتحقق المطالب، والمهم أكثر أن يكون العدو قد تلقى درسًا لن يسناه، ولسوف يوجعه كثيرًا عندما ينزوي نتنياهو ومن معه مثلما انزوى كل قادة كيان الاحتلال الإسرائيلي ورحلوا في كآبة الإخفاق وفي ما ارتكبوه من مجازر بحق العرب. هكذا سقط رابين، وهكذا مناحيم بيجن ومثله أرييل شارون وقبله جولدا مائير وبعده أولمرت وغيرهم، أسماء تافهة في سلم الإخفاقات.