في ظل ما يعتمر الأرض من فوضى وعنف وإرهاب وانحدار في القيم والمبادئ والأخلاق ومعاني المواطنة والتعايش والتقارب والوئام الإنساني، لا يزال الغيورون على الإنسانية في هذا الكوكب يبحثون عن كل ما من شأنه أن يعيد تلك القيم والمبادئ والأسس والمثل إلى سابق عهدها، ويعيد إليها مكانتها استنادًا إلى الإرث الديني والثقافي والحضاري الذي ساد قرونًا وأعطى الحياة البشرية والإنسانية زخمها وكينونتها وهويتها؛ الإرث الذي مزج آيات التنوع الإلهية في الدين والعرق واللون والطائفة واللغة والثقافة في قوالبها الإنسانية، واعتبر هذا التنوع قوة للمجتمعات وأساسًا من أسس التعايش والتقارب والتعارف، وربط الفرد بمجتمعه ووطنه.
اليوم تعاني المجتمعات وخاصة مجتمعاتنا الإسلامية والعربية شروخًا هائلة وجروحًا عميقة جراء الهزائم النفسية وحالات الانكسار التي استطاعت الحضارة الغربية غرسها في فكر أبناء هذه المجتمعات وأنفسهم، كما نجحت في سلخهم عن مجتمعاتهم وتراثهم وإرثهم وعاداتهم وتقاليدهم، والأهم سلخهم عن القيم والمبادئ والمثل والأخلاق ومعنى الاعتزاز بالهوية وبالمواطنة والانتماء للأوطان التي تستمد من إرث حضارتهم الإسلامية وثقافاتهم التي كونتها مجتمعاتهم على مر التاريخ. فتحت أستار “الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وحماية المدنيين” وغيرها، تمكنت الحضارة الغربية من اصطياد شباب المجتمعات العربية والإسلامية وتغييب وعيهم عن العديد من المفاهيم والمبادئ والقيم التي تنظم العلاقات الإنسانية وتعلي قدرها، وتحفظ مكانة الإنسان وحقوقه من خلال قيم العدل والإنصاف والمساواة والحرية المنضبطة والمستمدة جميعها من الدين الإسلامي، ما أوجد فجوة وأزمة في الثقة والهوية والانتماء، حيث أخذ السواد الأعظم من شباب المجتمعات العربية والإسلامية ينظرون في الحضارة الغربية على أنها مصدر العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، فحولتهم إلى رماح وسواطير ومديات ينحرون مجتمعاتهم بزعم إقامة تلك المبادئ.
ومن المؤسف أن هذا الانفساخ الحاصل والطارئ على المجتمعات العربية والإسلامية وسيطرة الأفكار والأهواء الشاذة والتعدي على الحريات والتمرد على الأوطان، أسهمت فيه مجموعة من العوامل بداية من ضعف دور البيت والأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام والنادي والمساجد، مرورًا بالدور الفعال للتقنيات الحديثة وما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت يطلق عليها وسائل الجيل الرابع للحروب الموجهة لغزو الشعوب العربية والإسلامية.
هذه التحديات والهواجس التي غدا خرقها يتسع، كانت أمس محور الملتقى العلمي “المواطنة الإنسانية ودورها في التقارب والوئام الإنساني” الذي أقامه مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم في إطار فعاليات أسبوع التقارب والوئام الإنساني الرابع بمشاركة مجموعة من كبار المفكرين والمثقفين والباحثين والأكاديميين من مقدمي أوراق العمل من مختلف دول العالم، حيث ارتكزت أوراق العمل في الملتقى على محاور “المواطنة الإنسانية المفاهيم والأطر، والتعارف وأثره على المواطنة الإنسانية، والشباب والمواطنة الإنسانية”، في تعبير صادق ومخلص، سواء من قبل السلطنة أو المشاركين من داخلها وخارجها عن حجم الألم إزاء ما يعتري الإنسانية ومشتركاتها من تحديات، والرغبة الجادة في إلقاء الضوء عليها، والدور الذي يجب أن تضطلع به الدولة ومختلف مؤسساتها وأجهزتها لبلورة آليات من شأنها إحداث التفاعل الإيجابي المطلوب بين المواطن والدولة وربطه بوطنه ومجتمعه واعتزازه بهويته من خلال تأصيل مفهوم المواطنة، وأن رسالة الإسلام هي رسالة عبادة وثقافة ونظام وفكر ومعرفة وتسامح ورحمة وتعايش وعدل وإنصاف ومساواة، شاملة لكل شيء وصالحة لكل زمان ومكان، وقد سبقت بقيم العدالة والإنصاف والمساواة والتعايش والتقارب والتراحم والوئام وضمان حقوق الإنسان وحرياته وتعاملاته قبل الحضارة الغربية بقرون، فالحضارة الإسلامية هي غذاء للروح والجسد مع أهمية الموازنة بينهما، أما الحضارة الغربية فهي حضارة مادية، بل موغلة في المادية، وكل تحركاتها في هذا الإطار وتلجأ إلى شعارات “الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية” لتجسير مصالحها القائمة على المادية، وبالتالي نظرت إلى الإنسان لديها على أنه آلة وتحترم حقوقه بمقدار ما يقدمه لها من أسباب مادية، عكس الحضارة الإسلامية وثقافتها التي جاءت موحدة بين الناس على أسس المواطنة بعيدًا عن الدين والطائفة واللون والعرق، ولعل مفهوم المواطنة الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم بُعيْدَ وصوله المدينة المنورة ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وتوقيعه وثيقة العهد مع اليهود لتكون أساسًا للتعايش والمواطنة، دليل على تميز الحضارة الإسلامية.