د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج
التساؤل الأهم الذي ينبغي أن يطرح خلال الظرفية الراهنة ـ تحديدا وحصريا ـ وهو: كيف يمكننا ضمانة الأمان لميزانية الدولة الآن وبصرف النظر عن مستقبل أسعار النفط؟ هل في رفع الدعم عن المحروقات ـ كليا أو جزئيا؟ وهل هو الدعم الوحيد الذي تقدمه الحكومة أم هناك أنواع دعم أخرى؟ ولماذا لا تمس؟ وكيف يكتفى المساس بالدعم الذي فيه حمولات اجتماعية ثقيلة جدا دون الحمولات الاقتصادية كالدعم المقدم للقطاع الخاص؟ وقد خرجنا من ثلاثة مقالات سابقة أن الترشيد يجب أن يتبنى كنهج ثابت ودائم بصرف النظر عن الأزمة النفطية، فكيف بها وهي تهدد مضاجع الدول النفطية؟ وأن اقتصادنا الريعي يجب أن يتحول إلى اقتصاد إنتاجي ببرامج واضحة. لكن، من لديه هذان الهاجسان؟
من الواضح جدا أن التفكير في رفع الدعم عن المحروقات قد ذهب بعيدا، وربما ينتظر التوقيت الذي تمليه عدة اعتبارات بعد أن اشتغلت عليه حلقات عمل اعتقادا من الفريق المالي الحكومي أن هذا الدعم سوف يحقق التوازن لمالية الدولة في ظل استمرار تدني أسعار النفط، لكن أية اعتبارات؟ هل مثلا تدنٍّ أكثر لأسعار النفط؟ وهل ستكون هذه حجة اجتماعية مقنعة أم مثيرة للتجاذبات و..؟ لأن رفع الدعم ولو جزئيا ستتضرر منه الشرائح الاجتماعية محدودية الدخل، وهي تشكل القاعدة الكبيرة، حيث سترتفع ضروريات معيشتها وكماليتها رأسا على عقب، قد يظهر لنا من يقول إن هناك خطوات سوف تتخذ للحد من التأثيرات، وقد يقول قائل كذلك ـ وقد قيل ـ إن رفع الدعم سيكون جزئيا، كأن يبدأ برفع الدعم عن الديزل كمرحلة أولى، ويلوح بنظام البطاقات، لن ندخل في نقاش هذه الخيارات، لأننا نعتقد أن الأزمة النفطية وتداعياتها المستقبلية تحتم على تفكيرنا الوطني التعاطي معها برؤية شمولية لا جزئية، عبر القيام بمعالجات شاملة لكل الاختلالات التي انكشفت بعد عام 2011، سواء كانت مالية أو هيكلية، ودون ذلك لن نعمل على زيادة مستويات الأمان لميزانية الدولة التي تتوقف عليها كل مستويات الأمان الأخرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا نعتقد أن تفكيرنا يقترب من هذه المعالجات، لأنه تفكير الأزمات فقط، بدليل، تركيز التفكير الآن فقط على رفع دعم المحروقات، ولو بداية بالديزل، فلماذا لا نفكر فيه قبل الأزمة؟ وكيف فشلنا في تنويع بنية اقتصادنا، السبب في بنية الفكر نفسه، أي أنه فكر الأزمات فقط، علما أن قوة الأزمة وقوة تداعياتها المقبلة ـ النفط الرخيص ـ تتجاوز هذه المعالجة، كيف إذا عرفنا أن المبلغ المخصص لدعم المحروقات في بلادنا يبلغ (مليار) ريال عماني، فهل نعرف نسبة دعم للديزل؟ إنها تساوي (ما بين 39 ـ 40%) فهل مبلغ دعم الديزل سوف يكفي وحده لخلق مستوى الأمان لميزانية الدولة؟ حتى المليار نفسه لن يصنع لنا الأمان. إذن، هل هذا التدرج يتناغم مع ماهية المرحلة التي ستدخلها البلاد، وهي مرحلة النفط الرخيص؟ وإذا افترضنا أنه سيكون هناك إمكانية تلقائية لرفع الدعم كاملا عن المحروقات، فهل نعرف كم يشكل دعم المحروقات من إجمالي الدعم الحكومي العام؟ إنه يشكل (55%). إذن، هناك (45%) من الدعم الحكومي فمن الذي يستفيد منه؟ إنه القطاع الخاص طبعا، ولنا في دعم الغاز للمصانع العملاقة نموذجا هنا ـ فلماذا لا يمس الآن؟ وكيف يتم التفكير فقط في المساس بالدعم الذي فيه حمولات اجتماعية كبيرة، لأن أصحاب القرار هم أو من ورائهم المنتفعون منه، وهنا نقولها بصوت مرتفع: لقد آن الأوان للقطاع الخاص أن يتحمل مسؤوليته التضامنية مع الحكومة حتى نعزز مستويات الأمان لميزانية الدولة، بل إنه ينبغي عليه أن يكون أول المبادرين لهذا التضامن، لأننا لو بحثنا في تاريخ ولادته وفي تاريخ صناعته، وفي تاريخ بناء قوته الداخلية والخارجية، فسوف نجد وراءها أموال الدولة سواء عبر السياسات المالية المتعاقبة التي انصبت على خدمته منذ انطلاقة نهضتنا المباركة عام 1970 أو عبر سياسات الدعم والإعفاءات الضريبية العديدة أو عبر سياسة المنح المتعددة الأشكال، ومنها العقارية.
ولو أردنا أن نفتح نافذة أخرى على ما ينبغي القيام به أولا أو بالتزامن مع إعادة تصحيح الأخطاء في مختلف الدعم الحكومي، فسوف يظهر لنا بصورة تلقائية ملفات الشركات الحكومية الخاسرة، فواحدة منها كلفت الدولة خسائر تقارب (67) مليون ريال عماني، وواحدة منها بعد عام من تحقيقها أرباحا تبلغ مليوني ريال عماني خسرت في العام التالي ما يقارب مليار ريال عماني، فكيف يحدث هذا النزول المكوكي فجأة؟ هل يعقل؟ التساؤل الذي يطرح هنا: كيف تترك الحكومة هذه الشركات تستنزف أموال الدولة حتى الآن؟ نتمنى أن لا يستغل هذا الطرح لخصخصة هذه الشركات، فلسنا مع تخصيصها أبدا، وإنما مع إعادة تجديد مسيرها ومؤطريها بكفاءات وطنية عالية المهنية، لا نعمم فالبعض يحقق نجاحات كبيرة، وإنما الحديث هنا عن الشركات الخاسرة، ولو فتحنا كذلك نافذة على شركة الطيران العماني، فلماذا تدعم الحكومة هذه الشركة؟ وكيف لم تعتمد على نفسها حتى الآن؟ ولو فتحنا نافذة أخرى على خسائر قطاع النفط، فسوف نستدعي أحد المشاريع المثيرة للجدل (..) الذي كلف خزانة الدولة أكثر من (تسعة) مليارات دولار، ولو فتحنا نافذة الهيكل المؤسساتي للدولة، فسوف نجده ثقيلا جدا، ومرهقا ماليا جدا، ويحتم إعادة النظر فيه فورا عبر دمج وزارات وإلغاء أخرى، كما ينبغي أن يشمل الإلغاء لجانا وفرق عمل، مع تفعيل بعض مواد النظام الأساسي للدولة كتعيين رئيس مجلس الوزراء في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتنموية على أن تظل المؤسسات السيادية كالخارجية والداخلية والأمن .. تحت المظلة السلطانية .. ولو فتحنا نافذة استحداث نظام ضريبي جديد على الشركات كمصدر دخل جديد، بدلا من جعلها تأكل الأرباح السنوية دون مساهمة فعالة في ميزانية .. ولو فتحنا .. فسوف نجد نوافذ عديدة تصنع لميزانية الدولة مستويات عالية من الأمان بدلا من حصرية التفكير في المساس بمنطقتنا الاجتماعية.
نخرج من مقالنا ومجموعة مقالات سابقة ـ تشخيصية واستشرافية ـ بأن مرحلتنا الوطنية بإكراهاتها الاقتصادية والاجتماعية تحتم حكومة متخصصة وخاصة بالترشيد، لكي تضبط إيقاعاته ومساراته وتوجهاته بدلا من ترك المسألة للاجتهادات الوزارية المتعددة والمتداخلة المصالح العامة والخاصة التي قد تأتي بنتائج غير واعية بها، وقد تمس المكتسبات الاجتماعية التي تحققت منذ عام 2011، وهذه المرحلة الوطنية نفسها تحتم من أعضاء مجلس الشورى المقبلين اعتبار قضية الترشيد بمساراته الوطنية الواجبة أولى مهامها .. وينبغي أن تتكامل جهود المؤسستين، الحكومة ومجلس الشورى في قضية الترشيد حتى تكون المسؤولية جماعية من جهة وحتى تكون نتائجها ذات قبول اجتماعي، وهذا هو الأهم الآن، بدلا من الاستفراد بالقرار في قضية مصيرية ووجودية، كقضية رفع الدعم عن المحروقات، فهل يعيي المجتمع بأن اختياره للأعضاء الجدد لمجلس الشورى أمانة، ومسؤولية وطنية، وفرض واجب، من أجل الدفاع عن المصالح العليا للوطن، ومن أجل الشراكة الفعالة والملتزمة للحفاظ على ديمومة الأمن والاستقرار؟ وهذا هاجسنا الأول، ومن أجله ينبغي على الكل التضحية من أجله.