يبدو أن التماهي الموصوف بـ”المعتدل” لأطراف عربية وإقليمية مع متطلبات كيان الاحتلال الإسرائيلي حيال القضايا الجوهرية، أخذ يشق طريقه نحو التنفيذ الفعلي لـ”اللاءات” النتنياهوية الخاصة بالقدس واللاجئين والأسرى والمستعمرات الكبرى، بالتزامن مع الترويض المطلوب لفصائل المقاومة في قطاع غزة من جهة رمي الطعم لبعضها وإغرائها بشيء تراه هذه الفصائل جوهريًّا، تسعى من أجله وبخاصة رفع الحصار عن القطاع، حتى لو أدى ذلك إلى استخدام القوة مع الفصائل الرافضة للترويض والقبول بهذا الطعم/الإغراء؛ فوصفات الاتهامات والفبركات الباطلة والزائفة جاهزة لتبرير استخدام القوة.
ووفق هذا التقدير، فإن الحديث عن تجميد القضايا الجوهرية أو الاعتراف بها مثلما لم يعد موجودًا في قاموس الاحتلال الإسرائيلي، لم يعد أيضًا في قواميس الأنظمة المتماهية “المعتدلة”، ولا في قواميس دعاة السلام والحلول وعرَّابي التفاوض، ولا في قواميس المنظمات الدولية. فقد اختفى مرة واحدة ـ ويبدو إلى الأبد ـ الحديث عن القدس الشرقية وعودة اللاجئين الفلسطينيين وحدود عام 1967، وفي المشهد ذاته يبدو هناك أكثر من سيناريو يبيت للقضية الفلسطينية.
بالأمس كانت أعين “المطبِّعين والمعتدلين” مفتوحة على آخرها تشاهد التقسيم المكاني للمسجد الأقصى مع استمرار حملة نخر أساساته لتدميره وإقامة ما يسمى “الهيكل” على أنقاضه، ولم تهمس ببنت شفة اعتراضًا ولو على استحياء، واليوم الأعين ذاتها تغمض أمام التحرك الإسرائيلي الآخر بتقسيم المسجد زمانيًّا بالتزامن مع حملات محمومة يقوم بها كيان الاحتلال الإسرائيلي لتهويد القدس (شرقيها وغربيها)، حيث فرضت شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمرة الأولى وقتًا محددًا لدخول المصلين المسلمين وخروجهم من المسجد الأقصى، وأغلقت عددًا من بوابات المسجد للسماح لعصابات المتطرفين باقتحام المسجد بأريحية. وفي سبيل تحقيق ذلك، اعتدت شرطة الاحتلال على المصلين المرابطين، وهددتهم بسحب هوياتهم وإرسالهم إلى مراكز التحقيق والتوقيف في المدينة المقدسة المحتلة ما لم يلتزموا بهذا الوقت، وهو الأمر الذي يحدث للمرة الأولى وتسبب في ازدياد حدة التوتر في الأقصى.
يأتي كل ذلك، في الوقت الذي تُشحذ فيه سواطير الإرهاب، وتقام فيه حفلات الموت المجاني، وتُوظف ماكينة الإعلام في بث الدعاية والترويج عن الإرهاب وبخاصة إرهاب تنظيم “داعش”، من زاوية الزعم بمحاربته بهدف ترسيخ هذا الفكر الداعشي وأساليبه الإجرامية والإرهابية في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، وإشغالها به مع ما يستوجبه ذلك من أهمية توفير الوقود اللازم لاستمرار عملية الإشغال وحصد النتائج المطلوبة، وذلك بتأجيج الفتن الطائفية والمذهبية من جهة، ومن جهة أخرى دعم التنظيمات الإرهابية بما تحتاجه من سلاح ومال وتدريب، وعناصر تكفيرية إرهابية، وفي مقدمتها تنظيم “داعش” الإرهابي، مع الزعم (الممجوج والمفضوح) بمحاربته، وتقسيم الإرهاب إلى “معتدل” و”غير معتدل”.
وأمام تضافر جميع العوامل السالفة الذكر، وقوة الضخ الدعائي لماكينة الإعلام الصهيو ـ غربي ومعه الإعلام التابع والعميل، أخذت الذاكرة الجمعية للشعوب العربية تتعرض لحالة مسح ممنهج لقضية اسمها فلسطين، بداية من القصائد الملهبة للمشاعر والحماس، والموقدة للذاكرة من نحو “فلسطين داري ودرب انتصاري…”، ومرورًا بالمعاهدات واتفاقيات التطبيع، واللقاءات السرية وغير السرية، وصولًا إلى نعم: لا للقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا لحدود عام 1967، لا للإفراج عن الأسرى. فالذاكرة الجمعية العربية متقدة الآن بـ”داعش”، وأن الفوضى الإرهابية في الدول العربية كسوريا والعراق وليبيا وغيرها هي “ثورة” من أجل “الديمقراطية والدولة المدنية والعدالة والمساواة والحريات”، وأن إرهاب تنظيم القاعدة هو “المعارضة المعتدلة”، دون أدنى انتباه إلى أن المراد هو أن تخبو القدس وفلسطين من الذاكرة، وكذلك دمشق وبغداد والقاهرة وطرابلس وغيرها من عواصم التاريخ والحضارة العربية.