نزار قباني وقصائده المغناة
وأنا أحصي ما أمكن من قصائد لشعراء غنيت، وجدت أن الشاعر نزار قباني أكثر من قدم قصائده بأصوات متعددة من المغنين والمغنيات.
كانت قصيدة “أيظن” للشاعر نزار قباني وغناء نجاة أول طريقه إلى الإذاعة .. رأى فيها الموسيقار محمد عبدالوهاب مادة دسمة لاغنية ذات معنى، فهي تبدأ بـ”أيظن أني لعبة بيديه” ثم تطور إلى أن تصل في النهاية لتكون “ما أحلى الرجوع إليه”..
يقال إن تلك الأغنية نتيجة قفلتها المفاجئة ساهمت في تسوية الكثير من خلافات الأزواج وأهل الحب من صغار السن. سمعت مرة مربية مدرسة تشرح لإحدى الفتيات اللواتي جاءتها باكية بعد خلاف مع حبيبها، أن “الرجوع إليه” سوف ينتصر وسيعود إليها حبيبها قائلة إن الحياة كلها شبيهة بأغنية “أيظن”.
اشتهرت تلك الأغنية، لكن شاعرها هو الذي سما في سماء القصيدة العربية. فقد كان الشاعر نزار طويل القامة جميل المحيا بعينين لوزيتين وثقافة واسعة، وفي الجو البيروتي آنذاك وكانت بيروت محطة هامة لكل من توخى الشهرة، عرف سر مداخل المدينة فسكنها وهو الدمشقي الذي ولد في قارورة عطر كما يشبه تربية طفولته.
عشق نزار بيروت التي قدمت له الشهرة والمكانة ومارس فيها كل طقوس الشاعر .. وحين سقطت المدينة في حربها الطويلة وبيد الغوغاء، رثاها بقصيدة يكفي عنوانها أن يعرفنا على رأيه فيها، إذ سماها “ست الدنيا”. في كل الأحوال صار نزار شاعر المرأة وشاعر الحب، شهرته بلغت العالم العربي والعالم، لكنه كشخص كان محصنا تجاه التسميات كلها، فلم يكن مولعا بأن يكون مزواجا مثلا أو متنقلا بين أحضان نساء، حتى أنه أسر لأحد الأصدقاء بأنه يكره كل التسميات التي أطلقت عليه كشاعر، لأن حياته في الحقيقة خالية منها بل جافة أيضا. ولهذا لم يتزوج نزار سوى مرتين، أنجب خلالها ابنته الكبرى هدباء وابنه عمر ثم زينب، ومن المؤسف أنه أصيب بعدة ذبحات قلبية نجا منها بأعجوبة.
كانت “أيظن” فاتحة قصائد أدخلت نزار نادي القصائد المغناة، وخصوصا في مصر التي تقدم الشهرة على طبق من العسل، إضافة إلى بيروت التي كانت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي محطة دعم ومساندة وإطلاق للمواهب على أشكالها، إضافة إلى كونها ملجأ لكل تارك لبلاده وباحث عن مكان يتنفس فيه كما كان يقال في تلك الفترة الذهبية من عمر المدينة.
في هذه القصيدة صراع امرأة أحبت، لكنها تمارس كبرياء ثم تحاول الهجر، وفي النهاية تلجأ إلى حبيبها، تعود إليه بأحلى ما تكون تعنيه العودة. تسلسل الأبيات لا يدل على أن الشاعر نزار لجأ إلى مفهوم القوة على الشغف النسائي/ وفي التاريخ الذي نعرف أسطورة زيغفريد الذي عشق نفسه كثيرا ونظرا لطيبته فتنت به النساء، إلا أنه كان يهوى القوة ففتش عنها إلى أن عرف سرها فكان عليه أن يقتل تنينا ويستحم بدمه، وهكذا فعل فتحول إلى أقوى رجل في بلاده .. قوته الزائدة تلك أبعدت عنه محبيه وخاصة من النساء، صرن أخصاما له لأنه لم يعد ذلك الوديع الطيب السلس في علاقاته، بل أردن التخلص منه إلى أن جاء أحد أخصامه وقام بقتله بطريقة درامية .. ولعل جنازته التي تعتبر من أضخم الجنازات صورها الموسيقار العالمي فاغنر في إحدى سيمفونياته التي حملت عنوان “جنازة زيغفريد”.
لم يقدم نزار نفسه على هذه الشاكلة، ظل ذاك الحبيب المتواضع العاشق المتيم فعرف كيف يتسلل إلى قلب كل فتاة وكل امرأة، فصار معشوقا عن جدارة، لكنه لم يصبح عاشقا كما كانت أسراره، وعندما تزوج المرأة الوحيدة التي أحب، وهي بلقيس الراوي التي قتلت في انفجار السفارة العراقية في بيروت، أراد خيارا يثبت من خلاله سر عواطفه التي كانت عاطفة واحدة تجاه امرأة واحدة. ولهذا، ما أن سمع خبر الانفجار حتى بلغ ألمه مبلغا، ويقول ابنه عمر إنهم أخفوا عنه الخبر في البداية، لكنه عرف من الإذاعات المحلية، فكان الأصعب عليه أنهم لم يجدوا جثتها إلا بعد أيام مما زاد محنته وهو ينتظر أملا في أن تكون بخير حتى تحت الأنقاض. منذ ذلك الحادث عاد إليه وجع القلب الذي رافقه طوال عمره، ثم تحول إلى قوة هائلة من الكتابة ضد الأنظمة العربية والوحشنة العربية، فهجا ما فيه الكفاية من ظواهر عربية، وربما كانت قصيدته “بلقيس” هي الأعنف في هذا المجال ومثلها كرت سبحة قصائده اللاحقة.
عاش نزار بعد أن ملأ صفحات من القصائد .. لكن تلك التي غنيت بأصوات معروفة، بلغت شهرتها أكثر .. فبعد “أيظن” وبدون ترتيب، غنى له عبدالحليم حافظ أغنيتين، “رسالة ممن تحت الماء” و”قارئة الفنجان” .. في الأولى أمنيات محب أن يساعده حبيبه في الرحيل عنه وتتمتع دائما بقفلة لازمة يقول فيها “لو أن أعرف أن الحب خطير جدا ما أحببت/ لو أني أعرف أن البحر عميق جدا ما أبحرت/ لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت” .. أما في الأغنية الثانية فتراه أمام امرأة تقرأ في فنجانه كما هي عادة معظم المناطق في بلاد الشام التي لها مزاج خاص في احتساء القهوة المرة، حيث يخضع الفنجان بعد احتسائه إلى التبصير .. لكن نزارا في بعضها مفكر عميق بقوله على لسان القارئة “وستعرف بعد رحيل العمر/ بأنك كنت تطارد خيط دخان” .. كل امرئ في سن متقدمة يعيش الفكرة ذاتها حيث يكتشف أن الحياة هباء وسراب وكل ما مر معه قصة قصيرة.
أما ماجدة الرومي فغنت من نتاجه خمس قصائد “كلمات” و”أحبك جدا” و”طوق الياسمين” و”مع الجريدة” و”ست الدنيا”، وهذه تتحدث عن بيروت بعد حربها الأهلية حيث يقول في بعضها “أعترف أمام الله الواحد/ أنّا كنا منك نغار وكان جمالك يؤذينا” إلى أن يقول “الآن عرفنا أن جذورك ضاربة فينا/ الآن عرفنا ماذا اقترفت أيدينا” إلى أن ينده لها أن “قومي من تحت الردم”.
وغنت له نجاة بعد “أيظن” ثلاث أغنيات هي “ماذا أقول له” و”متى ستعرف” و”أسألك الرحيلا”.
أما فيروز فلها مع نزار أغنيتان قديمتان، الأول “لا تسألوني ما اسمه حبيبي/ أخشى عليكم ضوعة الطيوب” و”وشاية”..
أما أم كلثوم فكان لها نصيب من أغنيات نزار، فكان أن اختارت أغنيتين وطنيتين: الأولى “أصبح عندي الاون بندقية/ إلى فلسطين خذوني معكم”، والثانية مهداة إلى الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بعد وفاته بعنوان “عندي خطاب عاجل إليك” .. ومثلها غنى المطرب الليبي محمد حسن أغنيته “الهرم الرابع” حاول فيها نزار أن يقدم عبدالناصر على أنه ذلك الهرم..
وإذا عددنا أيضا قصائده التي تحولت إلى أغنيات، سنرى مثلا أنه أوصى أن يغني له ما يريد العراقي كاظم الساهر، فما كان من هذا المغني إلا أن اختار 29 قصيدة غناها بصوته وبعضها من الحانة. ثم جاءت أصالة فغنت ثلاث أغنيات، ثم فايزة أحمد أغنية واحدة ولطيفة التونسية أغنيتين إحداهما عن القدس، إضافة إلى المطرب الخليجي خالد الشيخ.
تلك الغزارة نقطة في بحر ما كتبه نزار من شعر وطني وعاطفي، إذا اعتبرنا أن قصيدته في المرأة عاطفية مع أنه لم يكن أبدا يشعرنا وخصوصا في قصائده اللاحقة سوى أنه يتعاطى مع موضوع الحب بشكل إنساني بحت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصيدة “عندي خطاب عاجل إليك” من كلمات نزار قباني وغناء أم كلثوم .. وقيلت بعد وفاة الزعيم الراحل:
والدُنا جمالَ عبدَالناصرْ:
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ..
من أرضِ مصرَ الطيبهْ
من ليلها المشغولِ بالفيروزِ والجواهرِ
ومن مقاهي سيّدي الحسين، من حدائقِ القناطرِ
ومن تُرعِ النيلِ التي تركتَها..
حزينةَ الضفائرِ..
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ
من الملايينِ التي قد أدمنتْ هواكْ
من الملايين التي تريدُ أن تراكْ
عندي خطابٌ كلّهُ أشجانْ
لكنّني..
لكنّني يا سيّدي
لا أعرفُ العنوانْ…
2
والدُنا جمالَ عبدَالناصرْ
الزرعُ في الغيطان، والأولادُ في البلدْ
ومولدُ النبيِّ، والمآذنُ الزرقاءُ..
والأجراسُ في يومِ الأحدْ..
وهذهِ القاهرةُ التي غفَتْ..
كزهرةٍ بيضاءَ.. في شعرِ الأبَدْ..
يسلّمونَ كلّهم عليكْ
يقبّلونَ كلّهم يديكْ..
ويسألونَ عنكَ كلَّ قادمٍ إلى البلدْ
متى تعودُ للبلدْ؟…
3
حمائمُ الأزهرِ يا حبيبَنا.. تُهدي لكَ السلامْ
مُعدّياتُ النيلِ يا حبيبَنا.. تّهدي لكَ السلامْ..
والقطنُ في الحقولِ، والنخيلُ، والغمامُ..
جميعُها.. جميعُها.. تُهدي لكَ السلامْ..
كرسيُّكَ المهجورُ في منشيّةِ البكريِّ..
يبكي فارسَ الأحلامْ..
والصبرُ لا صبرَ لهُ.. والنومُ لا ينامْ
وساعةُ الجدارِ.. من ذهولِها..
ضيّعتِ الأيّامْ..
يا مَن سكنتَ الوقتَ والأيامْ
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكَ..
لكنّني…
لكنّني يا سيّدي.. لا أجدُ الكلامْ
لا أجدُ الكلامْ..
4
والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ:
الحزنُ مرسومٌ على الغيومِ، والأشجارِ، والستائرِ
وأنتَ سافرتَ ولم تسافرِ..
فأنتَ في رائحةِ الأرضِ، وفي تفتُّحِ الأزاهرِ..
في صوتِ كلِّ موجةٍ، وصوتِ كلِّ طائرِ
في كتبِ الأطفالِ، في الحروفِ، والدفاترِ
في خضرةِ العيونِ، وارتعاشةِ الأساورِ..
في صدرِ كلِّ مؤمنٍ، وسيفِ كلِّ ثائرِ..
عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ..
لكنّني..
لكنّني يا سيّدي..
تسحقُني مشاعري..
5
يا أيُها المعلّمُ الكبيرْ
كم حزنُنا كبيرْ..
كم جرحُنا كبيرْ..
لكنّنا
نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ
أن نحبسَ الدموعَ في الأحداقْ..
ونخنقَ العبرهْ..
نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ..
أن نحفظَ الميثاقْ..
ونحفظَ الثورهْ..
وعندما يسألُنا أولادُنا
من أنتمُ؟
في أيِّ عصرٍ عشتمُ..؟
في عصرِ أيِّ مُلهمِ؟
في عصرِ أيِّ ساحرِ؟
نجيبُهم: في عصرِ عبدِ الناصرِ..
الله.. ما أروعها شهادةً
أن يوجدَ الإنسانُ في عصرِ عبدِ الناصرِ..
زهير ماجد