خميس التوبي
في الوقت الذي يستمر فيه أعداء أمتنا ووكلاؤهم دحرجة المنطقة نحو عمق دهماء الفتن والمحن، وأتون الحروب والإرهاب والخراب، يتكفل إعلامهم بمواصلة تعبيد الطرق لجلب مغيبي الفكر والوعي والمعزولين والعوام إلى مستنقعات التجهيل وتجريف الوعي وغسل الأدمغة، لتجريدهم من هويتهم وانتمائهم.
ومن ينظر إلى ناتج هذا الراهن في فلسطين وسوريا والعراق ـ على سبيل المثال ـ يكتشف حجم نفق الدجل ومداه والذي حشر فيه أولئك المغيبون والمعزولون ومسلوبو الإرادة والفكر، والدجل ذاته الذي يمارسه هؤلاء الأعداء ووكلاؤهم وإعلامهم ويتأبطونه في كل القضايا العربية والإقليمية وحتى الدولية لتسويق قضية هنا، وتضليل الناس حول قضية هناك.
ومن يتابع بين هنا وهناك، يجد أن مصلحة المستعمرة الكبرى المسماة «إسرائيل» هي الحاكم والتي يدور حول تحقيقها الجميع من وكلاء وأدوات وكلاء.
والمؤسف أن هذه المصلحة «الإسرائيلية» يجري تحقيقها تحت شعارات طائفية ومذهبية وفتن، فلغة الكذب والنفاق لم تعد تختلق فبركاتها من سياق التمنيات فحسب، وإنما أضحت منهاج عمل وأسلوبًا تتمترس فيه وحوله تلك المصلحة، وما الدجل ـ الذي عرجنا عليه آنفًا ـ سوى إحدى طرائق تبسيط المنهاج لتمرير المصلحة «الإسرائيلية» ومن ثم المشروع الصهيو ـ أميركي الأكبر في المنطقة.
لكن ما يؤلم ويندى له الجبين أن تستمر عملية تلقين هذا المنهاج والأسلوب الذي يتخطى قواعد المنطق المعمول به، وحقيقة الأشياء رغم حالة الانكشاف والافتضاح للأطراف الأصيلة ذات المصالح والمشاريع الاستعمارية في المنطقة والأدوات والوكلاء والخونة.
ولتبيان هذا الواقع المرير والمريع، نحاول سوق مقارنة بسيطة من خلال سياق الأحداث التي تمر بها دول المنطقة وتحديدًا فلسطين وسوريا والعراق، ونترك للقارئ السوي والموضوعي ذي البصيرة استنتاج حقائق الأشياء والأدوار التي تلعبها قوى إقليمية معروفة لخدمة المشروع الصهيو ـ أميركي في المنطقة، في الوقت الذي يفتك إرهاب الدولة الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني:
أولًا: حول سوريا: عقد مجلس الأمن جلسة مغلقة أمس الأول لمناقشة الأوضاع الإنسانية في سوريا بشكل عام وفي بلدة مضايا بشكل خاص.
وقدم وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق مساعدات الطوارئ، ستيفن أوبراين، تقريرًا لأعضاء المجلس حول المحاصرين في سوريا.
وللمرء العاقل أن يقف متأملًا ومتسائلًا: يعقد مجلس الأمن بجلال قدره جلسة حول وضع إنساني صوره مفبركة تقف وراءه قوى عربية وإقليمية ودولية معادية لسوريا وللشعب السوري، في حين يتجاهل عن سبق إصرار وترصد وضعًا إنسانيًّا مأساويًّا وحصارًا إسرائيليًّا جائرًا بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؟ بل إن المجلس لم يعقد يومًا جلسة لمناقشة الوضع الإنساني في القطاع المحاصر، ولم يعرِّج لحظة بشأنه في إطار مناقشاته حول قضايا الشرق الأوسط.
على أن السؤال الأهم هو: إذا كانت النخوة ومشاعر الإخوة والإنسانية هي التي دفعت القوى ونعني بها تحديدًا العربية لمطالبة مجلس الأمن بعقد جلسة حول الوضع في مضايا، فأين ذهبت هذه النخوة ومشاعر الإخوة والإنسانية عن الشعب الفلسطيني الذي يعاني من إرهاب دولة منذ ما يزيد على ستة عقود؟ ثانيًا: حول فلسطين: قضت محكمة عسكرية إسرائيلية أمس الأول بحبس فتاة فلسطينية قاصر (3 شهور) وتغريمها بنحو 500 دولار بزعم «حيازتها سكين».في حين يقوم كيان الاحتلال الإسرائيلي بإعدامات ميدانية واعتقالات يومية ظالمة ضد الفلسطينيين، وبدعم العصابات الإرهابية في سوريا بمختلف أنواع السلاح، ويرغم عملاءه وحلفاءه لمواصلة هذا الدعم من جانبهم، من أجل إبادة الشعب السوري وتدمير الدولة السورية.
والتناقض هنا يبلغ مداه، حين يصنف الاحتلال الإسرائيلي وحلفاؤه هذه الفتاة القاصر بأنها إرهابية ويزج بها في سجونه مع معاملتها معاملة غير إنسانية، ويصنفون الإرهابيين في السجون السورية بأنهم «ثوار» يطالبون «بالحرية والعدالة والمساوة»!
ثالثًا: في العراق: دفع نقص المواد الغذائية وممارسات تنظيم «داعش» الإرهابي المئات من العائلات المقيمة في مدينة الحويجة ومحيطها في شمال العراق، إلى الهرب سيرًا على الأقدام في طريق صعب وطويل، بحسب ما أفاد شهود ومسؤولون عراقيون.
كما اقتحم التنظيم أمس الأول المستشفيات الخمسة الرئيسية في الموصل والمراكز الصحية وداهم مذاخر الأدوية فيها وصادر الأدوية والعلاجات فيها تحت تهديد السلاح.
والغريب أن الدموع (وما هي إلا دموع تماسيح ونفاق) تذرف على أهالي مضايا الذين تتخذهم العصابات الارهابية دروعًا بشرية، وتنهب منهم لقمة عيشهم، وتنسد القنوات الدمعية عن ذرف الدموع حول الوضع الإنساني المؤلم للعائلات العراقية التي يحاصرها تنظيم «داعش» وينتهك أعراضها ويقتل أفرادها ويتخذها دروعًا بشرية، والتي يشردها من مدنها وقراها، ويستولي على منازلها.
والمفارقة الصارخة هي أن الدموع التي تذرف على مضايا هدفها إنقاذ العصابات الإرهابية التي تتخذ سكانها دروعًا بشرية، ولابتزاز الدولة السورية وحلفائها، ومحاولة اختلاق كذبة مشابهة لكذبة السلاح الكيماوي، بينما تستمر قوى إقليمية ودولية معروفة بدعم تنظيم «داعش» بالسلاح وببيع النفط الذي يسرقه من العراق وسوريا، ويستمر معه ضخ الإرهابيين في سوريا والعراق.
إن تلك الأحداث وما تفيض به من تناقضات كافية لافتضاح معشر المتآمرين على المنطقة، هي للتدليل على ذلك وليس للحصر، ولا نملك إزاء ذلك إلا ما قاله الشاعر: عليَّ صب المعاني في قوالبها..
وما عليَّ إذا لم تفهم البقر.