خميس التوبي
قبل الرحيل ومغادرة المسرح السياسي العالمي بعد ولايتين رئاسيتين امتدتا لثماني سنوات، يدلف الرئيس باراك أوباما إلى غرفة الاعتراف والإقرار بخطأ التدخل العسكري في ليبيا، مثلما فعل سلفه جورج بوش “الصغير” بعد أن دمر العراق وتركه خرابًا يبابًا فأقر بأنه اعتمد على معلومات استخباراتية خاطئة لشن الحرب على العراق قائلًا إن ذلك هو أشد ما يؤسفه خلال فترة رئاسته.
فأوباما أشار بأصابع الاتهام إلى حليفيه “شارد الذهن” ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، و”الباحث عن الظهور” نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق، في حين ألقى بوش “الصغير” بالمسؤولية على “سي آي إيه” في مقابلة له مع قناة (إيه. بي. سي) الأميركية أنه لم يكن مستعدًّا للحرب عندما دخل البيت الأبيض ولكن الذي دفعه إليها هو الاستخبارات.
وما يلاحظ أن سلسلة الاعترافات للغزاة الغربيين (الأميركيين والأوروبيين) لا تأتي إلا بعد خراب مالطا ـ كما يقال ـ وقبيل الرحيل ومغادرة المنصب، إلا أن سياق المجاهرة بالجريمة ـ التي طبعًا تعد جريمة حرب ـ لا يعني الاعتذار والرجوع عن الذنب بقدر ما يعني أن شخص الرئيس والقائد والمسؤول مجرد منفذ لسياسات نظام استعماري يدَّعي القيم والمُثُل والمبادئ.
وبغض النظر عن دواعي بدء أوباما فتح مذكراته والتمظهر بمظهر رجل السلام بهدف إعطاء الحمار قوة دفع في سباقه مع الفيل في ميدان السباق الانتخابي الرئاسي، إلا أنه يقدم دليلًا آخر، كما قدمه سلفه من قبل بوش “الصغير” على أن مخططات استهداف دول المنطقة يمكن أن تبدأ بكذبة مثل كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتلفيق الاتهام بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، وأنه مثلما كان في العراق خائن بصفة “معارض” كأحمد الجلبي والذين معه ساعدوا على تدميره، أيضًا كان في ليبيا خونة ساعدوا على ذلك بصفة “ثوار”، والحال ذاته ينطبق حاليًّا في سوريا، وأن القدرة على تغييب وعي المواطن العربي واقتياده من السهولة بمكان. والواقع اليوم يصدق هذه الحقيقة، فالنهايات التي وصل إليها العراق وليبيا ويراد أن تصل إليها سوريا ومصر والجزائر وغيرها، بأيدي مواطنيها أو من يأخذون هويتها، والنهايات هذه بدأت بأكاذيب وفبركات واستغفال واستهبال وسذاجة.
اليوم تتقدم ليبيا مشهد “الحريق العربي” بتحولها إلى الصورة المختزلة المراد تعميمها في المنطقة، وبتحولها إلى خزان جديد للإرهاب، وفي أحد أبرز التصريحات اللافتة لمحمود جبريل “الثائر” على نظام الراحل العقيد معمر القذافي لم يتحرج عن إعطاء الصورة التي يمكن أو تتجه إليها بلاده جراء “الحريق العربي”، حين قال بأن ليبيا تتحول إلى عراق أو صومال آخر، بينما وقف مصطفى عبدالجليل رئيس ما عرف بالمجلس الوطني الانتقالي متباهيًا على شاشات التلفزة بـ”النخوة العربية والكرم الحاتمي” لدولة خليجية (لا داعي لذكرها رغم أنه خصها بالذكر) بأنها موَّلت حرب “ثوار الناتو” بمليار ونصف المليار دولار، لينتقل مرحلة متقدمة مع صديقيه وبانيي “ليبيا الجديدة” ديفيد كاميرون “شارد الذهن” ونيكولا ساركوزي “الباحث عن الظهور” بإعلانه توزيع حصص تركة النفط الليبي عليهما وعلى إيطاليا.
والسؤال الذي يطرح ذاته الآن هو: أين “الثائران” جبريل وعبدالجليل؟
لقد تفتحت الزهور والورود التي كان يحلم بها ذانك الثائران “داعش والجبهة الإسلامية المقاتلة” وغيرها من الأذرع الخارجة من رحم تنظيم القاعدة، بعدما روتها طائرات حلف شمال الأطلسي، فلم يَفُحْ منها عبق الديمقراطية والحرية الأميركية والأوروبية وحقوق الإنسان.
ليبيا غدت عراقًا ثانيًا أو صومالًا آخر أو أفغانستان جديدة، أصحاب “عبق الديمقراطية والحرية، ومبادئ حقوق الإنسان” لا يهمهم ما آلت أو ستؤول إليه، وإنما ما يهمهم هو أن بلدًا عربيًّا جديدًا طويت صحائفه، ليكتب له مصير آخر غير الذي كان، تفتح له فيه صحائف أخرى ومن بينها شهادة وفاة بعد النجاح في تحويله إلى بلد فاشل ضمن ما يسمى “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، ما يسمح بالانتقال إلى البلد التالي.
أوباما في المقابلة التي نشرتها الخميس الماضي مجلة “ذي أتلنتك” ووصف خلالها كاميرون وساركوزي قال إن “ليبيا غرقت في الفوضى”، مضيفًا “عندما أتساءل لماذا ساءت الأمور، أدرك أني كنت أثق بأن الأوروبيين، بفعل قربهم من ليبيا، سيكونون أكثر انخراطًا في متابعة الوضع بعد التدخل”.
والإجابة المتاحة والممكنة لتساؤل أوباما هي أننا أمام مزاج سياسي أميركي مختلف، تبدو فيه المعايير الفعلية تحت ضغط معادلات ناشئة بحكم الوضع الداخلي الأميركي القائم وظروف السباق الانتخابي الرئاسي، ومحاولة نفض يد الإدارة الأميركية الديمقراطية بقيادته من مسؤولية استشراء الفوضى الإرهابية في ليبيا وعموم المنطقة، وما حصل من استهداف للسفارة الأميركية ومقتل السفير الأميركي، وبالتالي لا يعني أننا أمام مراجعة أميركية لمجمل التطورات الحاصلة في المنطقة والبدء في حلها، فليس هناك ما يشير إلى ذلك.
ولذلك، ما يلفت الانتباه أن أوباما وهو يطلق أوصافه على كاميرون وساركوزي، نسي أو تناسى أو ربما لم يرد أن يعطي لنفسه وصفًا لكونه شريكًا في عملية غزو ليبيا، كما لم يعطِ جامعة الدول العربية أو الدول العربية الممولة لمشروع ما يسمى “الشرق الأوسط الكبير” عبر بوابة “الحريق العربي”، ولكن هذا لا ينفي قيمة التصريح الذي يضفي مزيدًا من الحقائق على أن ما سمي بـالربيع العربي” ليس سوى مؤامرة صهيونية أميركية غربية.