بين الحين والآخر يقع النظر على رواية لكاتبٍ، أو كاتبة، غير معروفين، فيدفع الفضول بنا لقراءة الرواية لعلها تنبئ عن كاتب حقيقي ذي موهبة تفرق بين الرواية وغيرها من أصناف الكلام المكتوب. وهذه الرواية” الجوهرة والقبطان ” لكاتبة من سلطنة عُمان سبق لها أن أصدرت روايتين أولاهما بعنوان ” ثالوث وتعويذه ” والثانية بعنوان ” في كهف الجنون تبدأ الحكاية ” وكلتاهما صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.
أما الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها- ها هنا- فهي من إصدارات بيت الغشام للترجمة والنشر في مسقط.(2014) وتقوم حبكتها السردية على حكاية واقعية حقيقية ، ففي العام 1998 عثر صياد مشغول بالبحث عن قوت يومه على حطام سفينة شراعية عمانية كانت قد غرقت في مياه المحيط على كثب من الشواطئ الأندونيسية في القرن التاسع الميلادي، وعلى متنها عدد من البحارة العمانيين وفي جوفها نحو 60 ألف قطعة من الخزف الصيني الثمين الذي يعد كنزا من الكنوز المعروفة باسم كنوز التانغ. وقد تكفلت سلطنة عمان بإعادة بناء السفينة مرة أخرى مستعينة بما لديها من خبراء، وصناع محليين، وأجانب. وعندما انتهى العمل من بناء السفينة الشراعية التي قصد من إحيائها إعادة تسيير الرحلة من ميناء مسقط، باتجاه جمهورية سنغافورة، تأكيدا لمسار الرحلة السابق، قبل أزيد من ألف عام، جرى اختيار عدد من البحارة العمانيين، على رأسهم القبطان(صالح) وأعطيت إشارة الانطلاق. أما صالح هذا فلا نعرف عنه إلا أنه قبطان متزوج من الساردة (سعاد) منذ نيف وعشر سنوات، زواجًا تقليديًا كالمتبع في كثير من البلاد العربية والإسلامية ” فسعاد لصالح وصالح لسعاد ” منذ كانا طفلين يدرجان على التراب. وقد أنجب الزوجان عددا من الأطفال في مقدمتهم حمزة الذي تكرر ذكره في الرواية مرتين، كانت الأخيرة منهما في نهاية الفصل أو(الدَوْسَر) الأخير.
فالحكاية- في الواقع – تقوم على فكرة غير جديدة، ولا مبتكرة، وهي تمجيد البطل صالح، والإشادة بجلده، وصبره، ومقارعته الأهوال بروح قيادية عالية المستوى، لا يطالها كلل، ولا يمسها ملل، ولا تزعزعها الكوارث المستجدة، ولا المصائب الطارئة؛ من رياح وأعاصير وزوابع، وإن كانت شديدة. إلا أن في شخصيته نقطة ضعف واحدة هي التي تشكل الهاجس المحرك لتداعيات( سعاد) وهي تروي- مستخدمة ضمير المخاطب – ما وقع من حوادث، وما جرى من متتاليات سردية بدءا من انطلاق السفينة الشراعية المعروفة بجوهرة مسقط، وانتهاءً بوصولها إلى ميناء سنغافورة، مرورًا ببعض الموانئ الهندية(كوتشين) والسريلانكية (جال) ليُستقبل هو والبحارة، والجوهرة، استقبال الفاتحين.. أما نقطة الضعف التي هي ملتقى خيوط الحبكة المتخيلة فهي وقوعه في حب(منال) إحدى معارف زوجته سعاد، وشقيقته (أمينة) وقد وعدها بالتقدم لها خاطبًا طالبًا الزواج منها بعد أن يعود من رحلته البحرية المزمعة، عازمًا على ذلك بالرغم من أنه متزوج من (سعاد) التي طالما أقنعها بأنه يحبها إلى درجة العبادة.
ونقطة الضعف هذه تشوب حياته، وحياة زوجته، ورحلته البحرية بشيء من الاضطراب، والأسى، الذي يقلل من فرحة الإنجاز، وسعادته بالنجاة من أهوال البحر، وغضب الكون العاصف.
فكلما اتصل بهمْ بهاتفه المحمول، سمع من الأخبار ما لا يسره.
وأخيرا تقرر (منال) ألا مندوحة لها عن التخلي عن هذه الحكاية، فهي تأبى أن تقيم سعادتها على حساب الأخرى (سعاد) ولكي تقنعه بذلك، وتضع حدا لآماله العراض بالزواج منها، ادعت أنها خُطبتْ لشخص آخر، وأنهما على وشك الزفاف، ولكنه – بالطبع- لا يصدق، ويتحرى الحقيقة عندما يتصل بشقيقته (أمينة ) فيخاطبها سائلا ” ما أخبار منال يا أمينة؟ هل ترينها؟ أصحيحٌ خبر زواجها؟ ” وتقول له ردًا ” خبر الزواج صحيح، وينبغي أن تلتفت لنفسك، وتنساها، أمامك مهمة. وعودتك إلى عُمان لن تغير من الأمر شيئا، لقد غيرت (منال) رقم هاتفها، ومسحت أرقامك، وحذفت رسائلك، وصورك، من ذاكرة الهاتف ” (ص112) .
وباستثناء نقطة الضعف هذه في شخصية صالح، نجد المؤلفة زوينة الكلباني لا تفتأ تشير إلى صفات أخرى فيه تضفي عليه صورة البطل المثالي، وهي صورةٌ تحمل الدارس على الاعتقاد بأنه رجل استثنائي قلما يوجد نظيره على هذه الأرض. فعندما سقط صاري السفينة الشراعية الجوهرة، وحاول بعض مساعديه العدول عن متابعة الرحلة بحجة أن سفينة كهذه لن يكتب لها النجاح في محيط عُرف عنه التغير المفاجئ من هادئ ساكن إلى عاصف صاخب، أصرَّ على المضي قدُمًا، واستطاع استبدال الصاري، فهو” ثابت كالصخر في معالجة الأمور ” (ص118) وعندما واجهت السفينة الإعصار، وسط المحيط، واندفعت المياه داخلها، وأخذت تترنح، على الأمواج العالية كالجبال، توشك أن تتحطم، وتغرق، مثلما غرقت نظيرتها قبل أكثر من ألفِ عام، اتصف(صالح) هذا بإرادة صُلبة حديدية، وعزيمة لا تلين ” بالعزيمة والإرادة نفسها سنقهر هذا الإعصار وغيره ” (ص131) وتظل السفينة مدة تزيد على خمسة أيام وهي تخاتلُ الإعصار، وسط المحيط الهائج، والبحر المتدفق من أعالي السماء، وعلى الرغم من المشكلات الكثيرة التي تعرضوا لها بما فيها اضطرارهم للتخلص من الوزن الزائد بقذف الحجارة التي توضع في جانب من السفينة لحفظ التوازن عند الضرورة ، وكتل الرصاص، وعلى الرغم من تحطُّم المجاذيف، والصارية التي كسرت من جديد في ظرفٍ يحول دون تبديلها بأخرى، وتعرُّض البحارة لريح صرصر عاتية شديدة البرودة مع الافتقار لأي وسيلة من وسائل التدفئة، ونفاد الأطعمة (ص137) ووقوع عارضة السفينة الأمامية على رأس أحد البحارة(بو شبداس) فكاد أن يتهشم رأسه، ووجهه، ومع هذا كله استطاع القبطان(صالح) أن يقود السفينة خلال الأيام الخمسة، إلى أنْ هدأت الأحوال الجوية، وسكن البحر، وتلاشت آثار الإعصار، وأشرقت الشمسُ على المحيط، وعلى الجوهرة، من جديد. بيد أن هذا لم يكنْ الامتحان الصعب الأول، ولا الأخير، الذي اجتازته الجوهرة، وقبطانها صالح، فبعد أنْ مضى الظرفُ الجوي الحرج، وبلغت السفينة ميناء سيريلانكا، ظهر خطرٌ آخر، داخل السفينة لا خارجها، فقد لوحظ شيوع رائحة كريهة، خانقة، تهدد البحارة بالاختناق إنْ لم يوقفوا هذا الخطر، وبعد البحث، والتحري، اكتشف أحد مساعديه تسرب غاز الهيدروجين، وهو غاز سام وشديد الخطر على النسيج الرئوي للإنسان، ولهذا شعر أكثرهم بالصداع، والتقلصات المعوية، وفي ضوء ذلك الخطر المُحْدِق بهم جميعًا، ظل القبطان صالح يشجع الآخرين الذين معه، ضاربًا المثل بابن ماجد، وبسليمان المَهْري، وغيرهما من بحارة عمان الذين تردد ذكرهم على مدى التاريخ.
وأخيرا استُقبل البحارةُ في سنغافورة، واحتُفل بهم.. وكانت المفاجأة التي لم يتوقَّعها بطلُ الرواية، ولا القارئ، وهي وجود حمزة – ابنه- في صفوف المستقبلين المهنئين بسلامة الوصول، إلى جانب سفير سلطنة عمان، وغيره من المستقبلين الدبلوماسيّين والشعبيّين، وفي الأثناء تظهر (سعاد) لا بحضورها، بل بتداعياتها التي تخاطب القبطان من بعيدٍ في حوار يمتزج فيه الحبُّ بالعتاب. العتاب لأنه كاد أن يتخلى عنها لولا أن منال هي التي تراجعت، وفصمت عرى تلك العلاقة، والحبّ لأنها مهما كانت الظروف، والمُعطيات، فخورة به، وبإنجازه.
تلك هي الشخصية، وتلك هي مغامرتُها، وتلك نقطة الضعف الوحيدة التي أشير لها في متواليات السرد الخيالي، بيد أنّ المؤلفة- زوينة الكلباني – حرصت حرصًا كبيرًا على وضع البطل صالح في بؤرة اهتمامات المتلقي، مثلما هي في بؤرة اهتمامات الساردة، وجاء هذا على حساب الشخصيات الأخرى، فهي لا تعدو أنْ تكون نقاطًا صغيرةً لا تكاد تلحظ تدور في فلك الاسم الكبير ” القبطان”. حتى الساردة، نكاد لا نعرف عنها شيئا إلا من خلال معرفتنا بصالح وَحْدَه. فالتركيز على البطل أضفى الكثير من الظلال على سائر شخصيات الرواية، فجعلها كالدمى التي تتحرك بأصابع المُتحكّم بمسرح العرائس. تضافُ إلى هذا مبالغة الكاتبة في إسباغ صفات البطولة المثالية على القبطان، ممَّا أحالنا إلى نوع من روايات المغامرة التي عُرفت، وانتشرت في القرن الثامن عشر والنصف الأول من التاسع عشر، وهي روايات أقربُ إلى الرومانس منها إلى الرواية ذات البناء الواقعي. فالمشاهد المتعدِّدة التي حفلت بها الرواية عن مواجهة السفينة الشراعية للإعصار، ولتقلبات الأجواء، وعواصف المحيط، وغضب الطبيعة العنيف، تذكرنا برواية المغامرات التي لا يُقبل فيها إلا شيءٌ واحدٌ، وهو انتصار البطل على كل شيء، بما في ذلك العقبات التي تضعها الآلهة في طريقه. ومثل هذا النموذج الإنساني، وإن وجد فعلا في أمثلة قليلة، ونادرة جدًا، في حياتنا اليومية، إلا أنه، وفقا لقانون الأدب الروائي، يبدو شاذًا، ومفتعلا، ويحس القارئ إزاءَهُ بتناقض الرواية مع الواقع الحياتي الممكن، لا الواقع الذي ينبغي أن يكون.
وهذا لا ينفي عن الكاتبة قدرتها على كتابة رواية بمنتهى الواقعية، لو أرادت، فهي تتحكم بشروط السرد السلس، وتراعي العلاقات بين الحوادث، وما يحيط بها من عوامل الزمان، والمكان، وتتقن وصفها لمشاهد تضفي على السرد غير قليل من التشويق، والإثارة، من ذلك مشهد انطلاق الجوهرة عبر المحيط، ومشهد الإعصار، وما تخلله من اضطراب الموج المتلاطم، وترنح السفينة الشراعية، والشعور بالرعب الذي طغي على بعض البحارة، مما يُذكِّرُ بمشاهد سينمائية تتخلل أفلام المغامرات البحريّة، وهي أفلام متكرِّرَة، يكاد أكثرها لا يخفى على أحد. ولكن هذه المشاهد – في الواقع- تتكدَّس في صفحات الرواية كثيرًا، مما يحول دون الغوص في دخيلاء الشخوص، والتعرف على ما يمور في اعماق النفوس. وهذا أتاحَ للمؤلفة توجيه بعض الشخصيات لتقوم بأفعال لا تتوَقَّع، مثل قيام منال بالتخلي عن صالح حرصًا على علاقته بزوجته سعاد، فهذا التصرف يبدو لبعض القراء غير مقنع، كون الشخصية التي قامت بذلك لا نعرف عنها ما يؤهلها للقيام به. فقد حدثتنا عنها الساردة (سعاد) وحدثتنا عنها أمينة في اتصال هاتفي بينها وبين صالح، في حين أن منال،بالنسبة للقارئ، شخصية غامضة، منغلقة، لا يعرفُ عنها إلا القليل الذي لا يشفي غليل الدارس، ولا يطفئُ ظمأ باحث. علاوة على أنَّ الزمن الذي يفصل بين بدء الحديث عن علاقتها بصالح، وبدْء الحديث عن قطع هذه العلاقة، لا يسمح بتوقع مثل هذه التطورات، فهو زمنٌ قصير، ومحدود، لا يتجاوز الأسابيع.
ومع كل ذلك، لا تقلل ملاحظاتنا على الرواية من قيمتها الأدبية، فهي رواية مغامرات تعليميّة، تنمّي لدى الناشئة الحس الوطني، من جهة، والتشبث بقيم الطموح، وحبّ المغامرة، والصمود في مواجهة الأخطار الشديدة، والاتصاف بقوة الشكيمة، وصلابة العزيمة
د. إبراهيم خليل
ناقد وأكاديمي من الأردن