ليس من يومٍ يشعر فيه المرء أنه أقرب ما يكون إلى ربه كيوم الوقوف بعرفة، حيث تتجرد النفس من عرض الدنيا الزائل، وتستذكر مسيرة الروح لا الجسد، وذكرى الأيام الأولى لبزوغ فجر الإسلام ثم الربط بين ما آل إليه المسلمون اليوم وما كان عليه حالهم في بواكير المسيرة المحمدية على درب هداية البشرية إلى كيفية الحفاظ على التوازن السلوكي بين شؤون الدنيا والدين.
أما اليوم.. يوم عرفة.. فهو يوم الدين الخالص .. يوم القرب من الله والاستعصام بعزته فهو واجد الوجود كي يشمل عباده برحمته وتسامحه ومغفرته. في هذا اليوم الجليل يجتمع الحجيج في صعيد عرفات الطاهر امتثالًا وإكبارًا لشعائر الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج، كما أداها رسول البشرية الأكرم والمبشر الخاتم، وكما دعا كل الأمة الإسلامية إلى الاقتداء به في أدائها كل عام.
إن الوقوف بعرفة وفريضة الحج في مجملها تتضمن من المواعظ والدلالات ما يجعل من يأخذ بها بمفازة من العذاب في الدنيا والآخرة، حيث تصفو النفس، وتقر العين، وتهدأ السريرة وتستكين، فالإيمان بالقدر خيره وشره هو علامة على سلامة العقيدة وحسن أداء الفرائض، والاستقامة في السلوك مع الآخرين المسالمين من عباد الله.
إن الجلد والمشقة في الترحال إلى بيت الله الحرام، والطواف والسعي والوقوف بعرفة، والرمي، كلها مساعٍ تحمل دلالات عظيمة حول قدرة هذا الدين الحنيف على الرسوخ في نفس البشر وإلهامهم القوة والقدرة على ترويض النفس الأمارة بالسوء، وتحمل ما يعنُّ للمرء من مشقات الحياة وتعلمه الصبر على المكاره، والعمل العاجل ابتغاء ثواب آجل، والثقة في وعد الله لعباده المؤمنين. كما أن اجتماع هذه الجموع التي وصل تعدادها هذا العام حوالي مليون ونصف المليون حاج على صعيد عرفات الطاهر مكبرين مهللين مبتهلين ضارعين إلى المولى عز وجل، ملبين دعوة الداعي شاخصين بأبصارهم إلى السماء، آملين أن يتقبل الله حجهم فيعودوا إلى ديارهم كما ولدتهم أمهاتهم طاهرين من كل إثم أو سيئات، لهو اجتماع منبعه نيل رضا الله وتطهير النفس من الذنوب والخطايا، والحقد والكره والبغضاء والشح والبخل، والرياء والخيانة، وليحل محلها مظاهر الخير والعدل، والطهر والعفاف، والعفو والتسامح، والألفة والمحبة، والتعاون والتكافل والكرم والسخاء، والإخلاص والأمانة.
إذًا، هناك قدر جامع بين معشر حجاج بيت الله الحرام يتمثل في الرغبة في النقاء والصفاء والتطهر والإخلاص لكون تحققه يعد الأساس في قبول الحج والأعمال الصالحة، ولكونه الطريق المؤدي إلى رضوان الله وقبوله لعباده وأعمالهم، وبالتالي فإن هذا القدر الجامع غير مرتبط بزمان ومكان؛ أي ليس مرتبطًا بزمن الحج وموسمه ومكانه في عرفة ومكة المكرمة، وإنما مرتبط بسائر الفرائض والعبادات والمعاملات بمختلف أنواعها؛ فالحج فريضة من الفرائض التي تتطلب هذا القدر، وما يسود حجاج بيت الله الحرام من ألفة ومحبة وإخاء وتعاون وتكاتف، ونبذ للفرقة والشحناء والبغضاء والأحقاد والضغائن، يجب أيضًا أن يسود بينهم ومعشر المسلمين في كل مكان وزمان وإلى أن تقوم الساعة.
وحين نستلهم هذه الشعيرة العظيمة وما تبعثه في نفس الحاج والمسلم من وقار وخشية وتضرع، وعفو وتسامح ورغبة ملحة في قبول الحج وسائر الأعمال الصالحة، إنما نستلهم في خضمها التعاليم الدينية السمحة التي جاء بها رسول الهداية ومبلغ رسالة الإسلام والسلام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ولأن المسلمين الآن أصبحوا فرقًا أشتاتًا تطحنهم نار الطائفية المقيتة ويؤجج نارها عدو لا يرعى فيهم إلًّا ولا ذمة، وأضحوا هدفًا لسهام مسمومة يطلقها أعداؤهم مع كل حادث يقع في أي مكان من العالم؛ لذلك فهم مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى للمِّ الشمل ونبذ الفرقة والشحناء، وسد الثغرات أمام أعدائهم وإعادة تبييض صفحة الإسلام ناصعة لا تشوبها شائبة كما كانت، ومواجهة الحجة بالحجة ومعالجة التشوهات التي لحقت بصورتهم في العالم؛ فتاريخ المسلمين مليء بالشواهد الناصعة على إيجابية هذا الدين ومنفعته الكبيرة للبشرية جمعاء، وحبه للسلام والإخاء والألفة والمودة وحوار الآخر والمخالف ودعوته إلى ذلك باللين والرفق وبالحكمة. وبالتالي ما يحصل بين المسلمين اليوم من حروب وفتن طائفية ومذهبية واقتتال هو ليس من الإسلام في شيء، بل إن الإسلام ومنزل رسالته ومبلغها براء مما يحل بالمسلمين اليوم، وما يفعله الملتصقون بالإسلام ـ أيًّا كان موضعهم ووصفهم وانتماؤهم ـ من إشعال الحروب والفتن والإرهاب والقتل والتدمير هو خدمة لأعداء الإسلام، بل إنه دليل انتماء وتعاون وترابط بينهم وبين أعداء أمة الإسلام.
فالمسلمون اليوم مدعوون إلى أن يتبصروا إلى أي حال صارت أحوالهم وما هي أسباب ذلك؟ وما هي عدتهم لاجتياز هذا المنعطف الصعب في التاريخ المعاصر؟
ولا يفوتنا أن ننتهز هذه المناسبة الجليلة لنتقدم إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإلى كافة المواطنين والمقيمين على هذه الأرض الطيبة بالتهاني والتبريكات بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على الجميع بكل خير وبركة، داعين مبتهلين أن يحفظ المسلمين، ويهبهم مزيدًا من بُعد الرؤية لتوفير أسباب النصرة التي وعدنا بها رب العزة جل وعلا.. وكل عام وأنتم بخير وبركة.