
طارق أشقر
بإعلان كوريا الشمالية عن تجربتها النووية الخامسة الجمعة الماضية من شهر سبتمبر الجاري 2016، والتي وصفتها جارتها الجنوبية بأنها الأقوى من نوعها بالنسبة لكوريا الشمالية حتى الآن، تبدو في الأفق عودة الحرب الباردة مرة أخرى بين القوى النووية في المنطقة ولكن بصياغات أخرى مختلفة عن الحرب الباردة التي كانت حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي بين الغرب بقيادة حلف (الناتو) الذي ما زالت تتزعمه أميركا والدول الأوروبية الغربية، وحلف (وارسو) المنحل الذي (كان) يتزعمه الاتحاد السوفيتي السابق وحلفاؤه من دول أوروبا الشرقية ودول المعسكر الاشتراكي الأخرى التي بينها كوريا الشمالية نفسها.
وبتواصل بيونج يانج عاصمة كوريا الشمالية لتجاربها النووية التي وصل عددها إلى خمس تجارب منذ 2006 وحتى الآن، وإصرارها على عدم تراجعها عن خططها رغم العقوبات الأممية التي وصلت هي الأخرى إلى خمس حزم مختلفة من العقوبات، علاوة على العقوبات الأميركية، تكون الدولة الحليف السابق للمعسكر الاشتراكي سابقا، قد ورثت قدرة معسكرها السابق على زيادة حدة الاستقطاب التي كانت سائدة طيلة فترة الحرب الباردة قديما.
وقد بدت حدة الاستقطاب واضحة المعالم بشكل أكبر من خلال ردود الأفعال الغربية ومن الدول المجاورة لكوريا الشمالية على تجربتها النووية الأخيرة، حيث تشير جميع تلك الردود إلى الاتجاه نحو نظام (المحاور) الذي كان سائدا إبان الحرب الباردة مرة أخرى، خصوصا وأن واشنطن وعلى لسان الرئيس أوباما حذرت من (عواقب خطيرة)، فضلا عن اتصاله أي أوباما بالمسؤولين الكوريين الجنوبيين واليابانيين، وذلك وفق ما أعلنه البيت الأبيض الأميركي في هذا الشأن.
كما تتسع دائرة الاستقطاب الحاد بشكل أكبر من خلال اتفاق المواقف الغربية بطريقة أشبه لما كان متبعا في فترة الحرب الباردة، حيث تشابه الموقف الأميركي مع الفرنسي الذي استخدم لغة التخاطب الجمعي، إذ ورد في بيان قصر الأليزيه الفرنسي ما نصه “إن الأسرة الدولية يجب أن (تتحد) في مواجهة هذا الاستفزاز الجديد”، فيما ذهبت سيئول عاصمة كوريا الجنوبية للإعلان عن أن الزعماء في سيئول وواشنطن اتفقا على استخدام كل السبل المتاحة للضغط على بيونج يانج حتى تتخلى عن برنامجها النووي. وفي السياق نفسه أكدت اليابان رفضها للتجربة ووصفتها بغير المقبولة.
وفيما تصب كافة ردود الأفعال الغربية والمجاورة عودة سياسة التحالفات المحورية في ظل استخدام العبارات الفضفاضة التي تتسع لتعدد الخيارات المتاحة التي يمكن أن يكون بينها خيار (السباق) مثلما تردد عن استعداد سيئول لتدمير بيونج يانج في لحظات محدودة، تظل بذلك لغة (الردع) هي المسيطر الأكبر على لعبة السباق في تلك المنطقة، خصوصا وأن (الردع) وليس المواجهة العسكرية هو المحرك الأكبر والأساسي الذي كان دافعا لديناميكية الحرب الباردة في وقتها.
أما الصياغات الجديدة للحرب الجديدة التي قطباها الجديدان هما كوريا الشمالية والولايات المتحدة العدو اللدود للأولى، هو أن الوجه الجديد لهذه الحرب تغلب عليه حالة أقرب إلى عدم التكافؤ بين الأطراف المتصارعة المكونين من كوريا الشمالية من جانب، وأميركا والغرب واليابان إلى جانب كوريا الجنوبية من جانب آخر.
علاوة على ذلك فإن الوجه الجديد من الحرب الباردة المعاصرة أساسه بالدرجة الأولى السباق من أجل التفوق في عالم السلاح النووي والصاروخي ومن الأقدر على نشر صواريخ حاملة لرؤوس نووية، وذلك في ظل حمى المساعي الكورية الشمالية لكي تصبح دولة نووية معترفا بها، وهو مسعى لم تتمكن من بلوغه حتى الآن، غير أن الحرب الباردة السابقة كان طرفاها تقودهما دولتان نوويتان معترف بقدراتهما النووية عالميا وهما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي السابق.
أما الوجه المختلف الآخر بين حرب الأمس واليوم الباردتين، فهو يكمن في أن الحرب الباردة السابقة كانت (شمولية) في كافة مسارات السباق، حيث كانت تشمل سباقا اقتصاديا وفكريا أيديولوجيا وعسكريا تقليديا ونوويا وغيره، في حين أن الباردة الجديدة مركزها أسلحة الردع والاستقطاب والتمحور الذي اتسمت به الدول المضادة لتجارب بيونج يانج.
وفي كل الأحوال نأمل أن لا تعود الحرب الباردة التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي بفعل نظرية (البروستريكا) التي أتى بها الزعيم السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف، خصوصا وأن الباردة الأولى شهدت نشاطا ملحوظا في تجارة السلاح أهلك خزائن دول العالم مع الاستقطاب الحاد، وهي تجارة نرجو أن لا تروج في مجال السباق النووي في الباردة الجديدة التي تبدو في الأفق، وهو سباق أن نشط حتما سيكون على حساب التنمية الحقيقية للشعوب.
طارق أشقر من أسرة تحرير الوطن
ashgartariq@yahoo.com