احدث الاخبار
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / وباء الاحتلال

وباء الاحتلال

د. أحمد مصطفى أحمد:
الحكم من صيام شهر رمضان المبارك كثيرة ومتعددة. فإلى جانب كونه أحد أركان الإسلام الخمسة وعبادة روحية سامية، فهو تمرين للبشر على كبح جماح النفس وتحرير الإنسان من أن يكون عبدا لشهواته وتعزيز لإرادته. هذا بالطبع إضافة إلى الحكمة التقليدية التي يعرفها الجميع وهي أن يشعر الغني بجوع الفقير في نهار رمضان. وسبحان الله يأتي الشهر الفضيل هذا العام والعالم يواجه محنة غير مسبوقة هي وباء فيروس كورونا (كوفيد-19). ويتضاعف الشعور مع وجود الملايين في البيوت بسبب إجراءات الحظر للحد من انتشار الوباء. ويتعزز الشعور الإنساني لدى البشر في مواجهتهم لعدو مشترك لا يفرق بين من يصيبهم على أساس جنس أو عرق أو دين. مع ذلك، تجد قليلا من البشر يستمرون في غيهم بل وتظهر المحن أسوأ ما فيهم حين ينتهزون فرصة الوباء واهتمام العالم به ليتمادوا في الظلم والعنصرية والبغي.
منذ بدأ وباء كورونا والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين لا يوفر دقيقة إلا ويمعن في سياسته العنصرية، التي بقيت كسبة وحيدة مميزة في جبين البشرية بعد انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا القرن الماضي. وحين بدأ فرض قيود الحركة والإغلاق في أغلب بلدان العالم مع انتشار وباء كورونا أمل البعض أن العالم سيشعر ببعض الظلم والقهر والقمع الذي يعانيه الفلسطينيون في ظل وباء الاحتلال منذ عقود. لكن للأسف تبخر هذا الأمل بسرعة، وتولد العكس تقريبا مع تعود الناس على القيود والإغلاقات خوفا على صحتهم ورعبا من الفيروس القاتل. وها هي البشرية تستعد للتكيف مع نمط حياة جديد فرضه الفيروس، وبالتالي لن يفكر أحد في وباء الاحتلال وما على الفلسطينيين الذين يتعرضون يوميا للذل على المعابر هذا إذا نجوا من القتل أو الاعتقال ولم تهدم بيوتهم أو تجرف مزارعهم سوى أن يستمروا في “التكيف” مع وباء الاحتلال. وإذا كان العلم يسعى لإيجاد لقاح للوقاية من الفيروس أو دواء لعلاج مرضه فقد اكتفى العالم من البحث عن “حل” لوباء الاحتلال في فلسطين.
ليس لوما للعالم، فقبله تخلينا نحن العرب عن اعتبار قضية الاحتلال في فلسطين قضية رئيسية. وبعدما كانت قضية للإنسانية وقوى الحرية والاستقلال في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي تقلصت إلى قضية عربية ثم تقلصت إلى قضية فلسطينية فحسب. ومع كل تقلص يتغول الاحتلال ويتوسع بضم الأراضي وبناء المستوطنات بدعم من القوى الرئيسية في العالم. وأصبح الرهان فقط على مجرد الشعور، شعور العالم في ظل الإغلاق والحجر نتيجة وباء كورونا بما يعانيه شعب اغتصبت أرضه وأغلقت عليه مناطقه ويتحرك تحت تهديد السلاح. بالضبط كما يشعر الغني بجوع الفقير في شهر الصيام الفضيل. لكن حتى مجرد الشعور والتعاطف كان رهانا مبالغا فيه، وها هي الحكومة الإسرائيلية حتى قبل أن تتشكل تسعى لبناء المزيد من وحدات الاستيطان على الأراضي الفلسطينية وتضم مناطق استوطنتها بالفعل على مدى السنوات الماضية.
إذا كان وباء فيروس كورونا قضاء وقدرا، فإن وباء الاحتلال في فلسطين ليس كذلك بل هو إرادة بشرية لمجموعات عنصرية يقبل بها العالم طوعا لا كرها وتأييدا لممارساتها الدموية اليومية دون مقاومة أو حتى رفض يتسق مع الطبيعة الإنسانية الأساسية. ولم يعد مستساغا تبرير دعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بشعور العالم بالذنب بسبب ما تعرض له اليهود على يد النازيين منتصف القرن الماضي، فتلك فرية أصبحت ممجوجة، فكثير من اليهود، حتى من الناجين من محرقة النازي البشعة، لا يقرون سياسات المحتلين والمجازر التي يرتكبونها بحق الفلسطينيين وأرضهم وزرعهم في بلادهم. فاليهود، مثلهم مثل أتباع بقية الأديان السماوية والأرضية، لا يدفعهم دينهم إلى القتل ولا الظلم ولا القمع ولا احتلال أرض الآخر وهدم بيوته وتجريف زرعه. إنما من اختطف الدين من الإسرائيليين لا يختلفون عمن يختطف الدين من الإرهابيين بين المسلمين ولا المتعصبين المتطرفين بين المسيحيين.
المشكلة ليست فقط في هؤلاء الإرهابيين والمتطرفين، من أي دين أو جنس أو عرق، وإنما فيمن يبررون لهذا ويجدون به مسوغا في إطار سياسة أو نفعية انتهازية. وللأسف، هؤلاء أنفسهم من يعظون الآخرين بشأن الإنسانية السمحة ومبادئ حقوق البشر الأساسية وما إلى ذلك من لغو الحديث الذي لا يترجمه فعل ولا حتى قول حين يتعارض الأمر مع وباء الاحتلال وممارساته. ألا يحق للمرء أن يعتبر أن وباء فيروس كورونا أخف وطأة من وباء الاحتلال في فلسطين؟ ليس فقط على الفلسطينيين الذين يعانون الإغلاق والقمع والقتل والاعتقال منذ سنين ولا يشعر بهم أحد، بل على البشرية جمعاء التي زاد الأمل بتوحدها حول أهداف نبيلة مع وباء كورونا لكنها تبلدت تقريبا تجاه وباء الاحتلال. صحيح أننا نهتم لما يقترب منا، وننسى بسرعة ما هو بعيد عنا، والفيروس يتعرض لنا جميعا (لكن الاحتلال يؤذي الفلسطينيين فحسب) لذا فنحن نهتم بوبائه. لكن، من قال إن ترك بؤرة وباء مثل الاحتلال في فلسطين لا يصيب البشرية كلها بوصمة عار ربما تبلدت مشاعرها تجاهها الآن لكن من يدري ما سيحدث في الغد؟


المصدر: اخبار جريدة الوطن

عن المشرف العام

التعليقات مغلقة

إلى الأعلى