يطرح واقع التعامل مع فيروس كورونا (كوفيد19) مرحلة جديدة على الحكومات والمجتمعات أن تتجه إليها في ظل التوقعات باستمرار هذه الجائحة لأشهر أو سنوات قادمة، ووجود فاقد معرفي قائم على صراع المصالح بين الدول الكبرى في إنتاج الأمصال واللقاحات لعلاج هذا المرض، والموقف الصعب الذي تعيشه منظمة الصحة العالمية في ظل هذا الصراع الحاصل حول علاج المرض، وما يعنيه ذلك من أن مسألة الإبقاء على كل الحزم الإجرائية والتدابير الاحترازية التي قامت بها الدول وبخاصة الدول النامية واتخذتها في سبيل منع انتشار المرض بين السكان خصوصا تلك المتعلقة بإغلاق الحدود وتعليق خطوط الطيران وإيقاف الأنشطة أغلب الأنشطة الاقتصادية الصناعية والتجارية ومنع الناس من الذهاب لأعمالهم أو قضاء حوائجهم وما ترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على الاقتصاد والسيولة المالية والإنتاجية للمؤسسات الحكومية أو للشركات والمؤسسات الخاصة في ظل غموض الوضع وضبابية الصورة القادمة حول هذا المرض، لذلك فالاستمرار على هذا الوضع تدفع الدول والحكومات والشعوب ضريبة استمراره في الفاقد المالي المترتب على حالات الإغلاق والمنع والتعليق، مما سينذر بوضع مالي صعب وظروف اقتصادية قاسية تتجاوز قدرة موازنات الدول على تحملها أو التعامل معها خصوصا في دول الخليج التي تعتمد على النفط كعنصر إنتاج رئيسي يفوق كل عناصر الإنتاج الأخرى، وما أسهم به الانخفاض الحاد في أسعار النفط من تحديات مالية واقتصادية انعكس على قدرة الدول في التعاطي مع متطلبات الحالة الوطنية.
ولما كان الأمر كذلك، كان من الأهمية التفكير في تبني سياسات وتوجهات أخرى تضمن عودة الحياة إلى طبيعتها واستمرار الأنشطة الاقتصادية والتجارية والصناعية والحياتية المختلفة في وضعها الطبيعي مع التأكيد على الاستمرارية في الإجراءات والتدابير الاحترازية الشخصية والمجتمعية في التعامل مع الفيروس، خصوصا ما يتعلق منها بالتقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي وإجراءات العزل الصحي والمداومة على تنظيف اليدين بالماء والصابون والتقيد بإجراءات الصحة العامة في أثناء العطس والسعال، بالإضافة إلى إلزام الجميع بارتداء الكمامات في الأماكن العامة، وتشمل جميع مواقع الأنشطة التجارية والصناعية المسموح بها، وفي أماكن العمل في القطاعين العام والخاص، ووسائل النقل العامة، ومع إعادة فتح حزمة جديدة من الأنشطة التجارية والصناعية مع ضرورة التزام تلك الأنشطة بالضوابط الوقائية اللازمة؛ إذ إن فيروس كورونا ما زال هاجسا عالميا وواقعيا حياتيا لم يختفِ بعد، وما زال يمارس نشاطه بكل قوة، كما أن ما يشار إليه من علاجات وأمصال ما هي سوى اجتهادات وعمل لمراكز البحث والمختبرات العلمية والطبية التي لم يتفق العالم على اعتمادها وتحتاج مسألة الاعتراف بها إلى شهور قادمة، لذلك فالعلاج لم يتم اكتشافه بعد وحالات التعافي التي يشهدها العالم باستخدام المتوفر من اللقاحات في تزايد مستمر وهو ما يعطي مسألة انتظار توقع وجود لقاح معين يتم استخدامه لمرضى كورونا (كوفيد 19) غير ذي أهمية نظرا لتزايد حالات التعافي كما أشرنا، كما أن عمليات الاحتكار للعلاج ـ إن سلمنا بوجوده وحالة الضغط التي تواجهها الدول في شرائه في ظل الظروف المالية الصعبة التي تعانيها دول العالم الثالث والدول النامية ـ سوف يقلل من أهمية انتظار هذا العلاج لما يتوقع أن يتطلبه من موارد مالية ضخمة وعرضه على السوق العالمي بأسعار مرتفعة أمر وارد، وهي أمور باتت الدول تحسب لها ألف حساب في ظل ما تعاني من أوضاع اقتصادية ومالية قللت من إمكانية المجازفة بالموارد في شراء هذه اللقاحات، وبالتالي يصبح العمل القادم إنما هو مرحلة لبناء مزيد من الثقة بين الحكومات والشعوب في توجيهها إلى القيام بدور استثنائي في الحد من انتشار مرض كورونا، فالكرة الآن أصبحت في ملعب المجتمع بكل فئاته وشرائحه، والمسألة تعدت دور الحكومات في هذا الشأن التي أدت الدور كما ينبغي وقامت بالمهمة خير قيام وجندت أجهزتها المالية والأمنية والصحية والإعلامية وغيرها في سبيل الحد من انتشار المرض، وأوقفت مصالحها الداخلية والخارجية من أجل الوصول إلى أفضل التوقعات وأقل الحالات المعرضة للمرض، وبالتالي كانت الفترة السابقة والتي استمرت لأكثر من ثلاثة أشهر مضت كفيلة بوضع النقاط على الحروف وامتلاك المجتمع محددات القوة ومؤطرات الأداء ومساحات العمل النوعي الذي ينبغي أن يقوم به في التعامل مع هذا الوضع، جندت فيه الدول برامجها الإعلامية والتوعوية والتثقيفية والإعلام البديل في توعية المجتمع بكل فئاته حول كورونا، وإعطاء صورة مكبرة حول هذا المرض وكيفية انتقاله وأعراضه وأسبابه وكيفية الوقاية منه، وتحذير المجتمع بكل شرائحه بالمخاطر المترتبة على كورونا وإعداده لتحمل مسؤولياته القادمة في الوقوف على التعليمات والقرارات الصادرة من اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19)، والعمل بها، بما يعني تمكين المجتمع من إدارة مواقفه، والتعاطي الواعي مع معطيات هذه الجائحة والوقوف صفا واحدا في وجه أي محاولات تتسبب في تجاوز هذه القرارات أو مخالفة ما يصدر من قرارات هذه اللجنة والعقوبات والجزاءات المترتبة على هذه المخالفات، بل كان القرار الوزاري الذي أصدره المفتش العام للشرطة والجمارك رقم (151/2020) بشأن ضوابط التعامل مع المخالفين لقرارات اللجنة العليا تطبيقا عمليا عزز من بناء المسؤولية وترقية الشعور المجتمعي بأهمية العمل معا في الحد من انتشار المرض، وتأكيدا لمبدأ المسؤولية الفردية والجماعية على حد سواء في الالتزام بهذه القرارات والعمل بها في كل الظروف والأحوال والأمكنة والمواقف، وأن هذه القرارات والتعليمات التي تصدر من اللجنة العليا وجهات الاختصاص إنما تستهدف تحقيق مصلحة المجتمع وإبعاده عن شبح المرض وتجنيبه أي انحرافات قد تتسبب في انتشاره بينهم، وتدريبهم ذاتيا على سلوك الالتزام، وتشجيعهم على خلق المبادرة والقدوة في تحقيق صورة العمل المسؤول والإنجاز المعزز بروح المسؤولية والوعي والمصحوب بقيمة الإخلاص وشعور المواطن المسؤول، ووضعهم في الصورة الكاملة للإجراءات المتخذة التي قامت بها الحكومة في هذا الشأن بالشكل الذي يؤسس فيهم روح الوفاء للمنجز والولاء للوطن، ويمنحهم الوقاية اللازمة لتحقيق أعلى مستويات الرعاية والعناية بصحتهم النفسية والبدنية، وترقية مسارات حياتهم وحياة أسرهم والمجتمع وعدم تعريضها لأي مشوهات قد تسيء إلى المنجز الوطني المتحقق حول كورونا، والتوجيهات السامية الكريمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم في بذل كل ما في الوسع من أجل التصدي لهذه الجائحة واستشعار المسؤولية الوطنية في حماية الإنسان وصحته وسلامته باعتبارها المحك الذي تدور حوله كل الجهود والغاية التي تتسع لها منصات العمل الوطني وخطوط التأثير الوطنية التي اعتمدتها اللجنة العليا في تعاملها مع هذه الجائحة وما التزمت به من مسارات أسهمت في تعزيز البعد الوطني في مواجهة كورونا وأثمر عن نواتج نوعية انعكست إيجابا على جهود السلطنة في الحد من هذا المرض والتي حازت على تقدير وإعجاب منظمة الصحة العالمية بما اتخذته السلطنة من خطوات جادة وإجراءات فاعلة ضمنت تحقيق فرص أكبر للنجاح والتميز في مواجهة المرض، وعكست في محتواها الخصوصية العمانية والقيم الحضارية والإنسانية للسلوك العماني السياسي والاجتماعي في تعامله مع الوافدين وتوفير كل مستلزمات الرعاية والعناية لجميع القاطنين على أرض السلطنة بلا استثناء، ناهيك عما التزمته من إيجابية الخطاب وضمان مساحة أكبر للشفافية والوضوح والحد من الإشاعة ونشر المعلومات الكاذبة أو تناقل الأخبار غير الموثوقة، وتفعيل الأطر التشريعية والقانونية في ضبط أي مخالفات أو تجاوزات للقرارات الصادرة من اللجنة العليا.
ومع استمرار كورونا واتساع فترة بقائه واستمرارية تأثيره في كل نواحي الحياة وتزايد التعقيدات المتربة على وجوده، والضغوطات التي بات يفرضها على أجندة الحكومة والمواطن على حد سواء، والقلق الذي بات يثيره على وضع البلد اقتصاديا في ظل انتكاسة النفط الساحقة، في وضع لن تتحمل موازنة الدولة العامة تمويله أو إيجاد بنود صرف له، واستقطعت أكثر الدول نسبة من موازناتها المالية الإنمائية للحد من انتشار الفيروس، وتقليل حجم الخسائر الناتجة عن توقف الأعمال وتوجيه العاملين والمشتغلين إلى البقاء في منازلهم والعمل عن بُعد، وهو الأمر الذي سيكلف اقتصاد الدولة الكثير من التبعات المالية، من حيث زيادة العجز في الموازنة العامة للدولة، ما يمثل تحديا اقتصاديا سيؤثر سلبا على الموازنات الإنمائية والمشروعات الاقتصادية والاستثمارية التي سعت الحكومة إليها لتشكل داعما في خطط التنويع الاقتصادي، وما تبع ذلك من إجراءات وتدابير احترازية ووقائية تمثلت في الإيقاف التام لأكثر الأنشطة الاقتصادية الصناعية والتجارية، والتقليل من أعداد العاملين في المنشآت الاقتصادية والشركات، وما اتجهت إليه جهود الحكومة للحد من تأثير تدهور أسعار النفط على الموازنة العامة للدولة، من التفكير في مجموعة من الإجراءات التقنينية والضبطية والتفعيلية، وعبر المنشورات التي أصدرتها وزارة المالية في الربع الأول من عام 2020؛ والتي تستهدف تحقيق الوفرة المالية وإعادة التوازن الاقتصادي؛ لذلك كان من الأهمية في ظل هذه الأوضاع الصعبة والظروف المعقدة على اقتصاديات الدول مع عدم وجود مؤشرات مكتملة في انحسار الفيروس واختفائه؛ أن يتم العمل في المقابل من أجل استمرارية الحياة لتتجه المسؤولية إلى كل فرد في المجتمع؛ باعتباره مسؤولا عن نفسه وتصرفاته وسلوكياته وقناعاته حول هذا المرض، بعد أن عرف مواضع الخطر واطَّلع على عمق المشكلة ومكمن التحدي وشخَّص تأثير الجائحة بكل معطياتها وظروفها وتفاصيل حكاية كورونا وحالة القلق والرعب والارتباك التي أثارها بين السكان، وعرف كيفية انتشار المرض والأدوات المانعة من ذلك، وبالتالي ما له من حقوق يجب أن يحصل عليها في وطن الأمن والسلام والإنسانية، وما عليه في المقابل من واجبات أخلاقية ومسؤوليات وطنية تتعلق بالتزامه بالقرارات الصادرة من اللجنة العليا، واستشعاره لحجم المسؤولية في الوقوف عند حدودها، والالتزام بما اقتضته القرارات والتوجيهات من أوامر وأفصحت عنه من آليات وأنتجته من أدوات ووقفت عليه من محطات للتغيير وإعادة هندسة السلوك، وأطرته من مفاهيم ومفردات للعمل المسؤول، وألزمت به من موجهات تستدعي المزيد من الوعي بها والعمق في قراءة ما بين سطورها؛ لتستمر الحياة ويتعايش المجتمع بكل أفراده ومؤسساته وعلاقاته وتفاعلاته وأجندته مع جائحة كورونا (كوفيد19)، في إطار من الحيطة والحذر والحرص والدافع، والرغبة وحس المسؤولية في تحقيق أعلى درجات الالتزام والوصول إلى أعلى معايير الجاهزية والاستعداد في التعامل مع متطلباتها، بالشكل الذي يضمن للجهود السابقة التي بذلتها اللجنة العليا المكلفة، والمؤسسات المعنية المدنية والعسكرية والأمنية على حد سواء، في ظل ما اتخذته السلطنة من جهود استهدفت تحقيق إنسانية الإنسان وكرامة وجوده واستحقاقات تكريمه وتوفير كل الممكنات الداعمة لتحقيق الصحة والأمان والعافية والسلامة وإبعاده عن مكمن الخطر، بما يضمن تحقق الاستدامة والقوة واستمرارية العمل على توفير فرص المعالجة، والإجابة على التساؤلات المطروحة، والوقوف عند مواقف التحدي، وتشخيص حالة الإنجاز، وقراءة مسيرة الوعي المتحققة، لتصبح أجندة العمل السابقة أرصدة نجاح لبناء الدافع وترقية المسؤولية وتحسين السلوك وإعادة إنتاجه بطريقة تضمن تناغمها مع الواقع، ويصنع لها محطات نجاح قادمة يترجمها وعي المجتمع من مواطنين ومقيمين، ورفع مستوى الحس الوطني لديهم في الحد من انتشار كورونا (كوفيد 19)، وعندها يصبح كل فرد طبيب نفسه، يحفظها من الوقوع في المحظور، ويردعها عن التنازل عن تعهداتها بالالتزام أو مخالفتها لعقد الاتفاق الذي التزمت به منذ البداية والميثاق الأخلاقي الذي التزمت به عبر السير على النهج المرسوم من اللجنة العليا المكلفة والتقيد بالإجراءات والالتزام بالقانون.
من هنا نعتقد بأن المرحلة المقبلة تستدعي المزيد من الابتكارية في قراءة مسار العمل الوطني الموجه نحو كورونا، والوقت المستقطع له والأجندة الوطنية الموجهة إليه والتي نعتقد بأن الأشهر السابقة كفيلة برسم مسار واضح حول الإطار الوطني لتحصين المجتمع من جائحة كورونا (كوفيد19)، وبالتالي بناء سيناريوهات عمل جديدة، عنوانها: استشعار المسؤولية الشخصية والمجتمعية على حد سواء في الوقاية من فيروس كورونا والالتزام بالقرارات الصادرة من اللجنة العليا المكلفة؛ ذلك أن بقاء الوضع على ما هو عليه مدخل لتفاقم الأوضاع الاقتصادية وزيادة العبء على الموازنة العامة للدولة وتأثيراته على الاقتصاد الوطني، في ظل المؤشرات العالمية باستمرارية المرض، فإن ما تم اتخاذه من إجراءات وتدابير احترازية ووقائية كان كفيلا بوضع المجتمع بكل فئاته أمام صورة العمل القادم، إذ من غير المجدي أن يستمر إغلاق البلاد ووقف الأنشطة الاقتصادية: الصناعية والتجارية، ومنع الناس من مزاولة أعمالهم، والاستمرار في إبقائهم في منازلهم وتضع المصالح اليومية في وضع مبهم وأمر غير واضح وظروف غامضة لا يمكن التنبؤ بزوالها في الوقت القريب، لذلك كان من الأهمية أن تتجه مسيرة العمل القادمة إلى تعميق دور المسؤولية الشخصية في التعامل مع الجائحة، ورسم ملامح التحول في السلوك الشخصي الموجه للتعامل معها، لتضع الفرد أمام مسؤولية تحقيق التزام يمشي على الأرض في ظلال القيم والمبادئ والأخلاق مؤطرا بمسارات الوعي وحس المسؤولية وإدراك الواجب، وفهم المعطيات وصناعة النماذج الإيجابية المضيئة والقدوات الذاتية في السلوك والممارسة وحسن التصرف، وهي في الوقت نفسه مسؤولية مجتمعية، تُبقي الباب مفتوحا أمام المجتمع في تحقيق معيار المنافسة، وبلوغ أعلى درجات التناصح والتوعية والتثقيف والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والتكامل والتفاعل والتوجيه والتواصل الفكري بين مختلف شرائح المجتمع ليقوم الآباء والأمهات والمثقفون والمعلمون والكتاب وصناع الكلمة والإعلاميون والصحفيون والقائمون على الوعظ والإرشاد الديني ومشاهير “السوشل ميديا” والمغردون في منصات التواصل الاجتماعي وغيرهم في كل ما من شأنه تأصيل روح المسؤولية المجتمعية عبر تبني أفكار جديدة وأساليب متجددة وأنماط متنوعة وبرامج محفزة وطرائق جاذبة في تعزيز الالتزام بالقرارات والتقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي، واتباع العادات الصحية السليمة في الوقاية من الفيروس، والعمل بالاحترازات التي تمكن الموظفين من العودة إلى العمل بسلاسة، بحيث يترجم ذلك في عقد اتفاق مشترك وميثاق أخلاقي تجتمع حوله إرادة وقناعات مختلف شرائح المجتمع ومؤسساته للحد من انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) والوقاية منه.
المصدر: اخبار جريدة الوطن
أنت هنا: الرئيسية / اخبار جريدة الوطن / في العمق: كورونا من مسؤولية الدولة إلى مسؤولية الفرد والمجتمع