صرنا قاب قوسين أو أدنى من عين (تيدبور) في نيابة طيطام بولاية صلالة، وهي ليست عين ماء عادية تقع في وادٍ محاط بجبال وعرة، وغابات أشجار متعانقة وسط صخور وعرة، يتخللها شريط ضيق يربطها من الشمال بالقرى المتناثرة في الجبال التي تطل عليها، كما يمكن الوصول إليها جهة مدينة صلالة مرورًا بالطريق السريع (صلالة ـ قفطوت ـ طيطام)، بالنسبة للسّياح والسكان فهي مجرد عين ماء، ولكنها بالنسبة لي أهم من ذلك بكثير، فمنذ أن علمت من علي بن سالم كفيتان بيت سعيد ـ خبير البيئة والكاتب الصحفي المعروف ـ بأن (تيدبور) هي عبارة عن حلقة ضمن حكاية شعبية يتوارثها كبار السن، تحكي أن النبي أيوب ـ عليه السلام ـ جاء من جهة بحر العرب، وعندما وصل شاطئ عوقد جلس ليستريح على ضفاف خور عوقد، حيث لا يزال هناك مقامٌ ماثل ينسب إليه حسب بعض الروايات، ارتبط بحكاية مَقْدَمِه في طريقه إلى مقام الضريح الحالي في جبل إتين، وقبل أن يصل إلى عين تيدبور، يقال إنه استراح على صخرة لا تزال آثار قدميه ظاهرة عليها، ويطلق عليها باللغة العربية الجنوبية القديمة (شاف أنيي) خُفْ النّبي. يقال إنه استراح هناك ثم توجه إلى منطقة تسمى (قطنيت) وعزم على أن يكون مقامه هناك فصار المكان مقامًا مؤقتا ولا يزال سكان المنطقة إلى عهد قريب عندما يمرون بالمكان يضعون غصنًا أخضر على المقام، ثم عبر شرقًا حتى استقر مقامه في مكان الضريح المعروف حاليًّا باسمه في عقبة عريه. كانت هذه الخريطة التاريخية الروحانية تتحرك في عقلي. حرك المكان كثيرًا من التداعيات الروحية في أعماقي. مررنا وسط مجموعة من التجمعات السكانية، تكتسي المباني جمالًا أخاذًا يمتزج بالتلال والشعاب والأشجار والسحب، كدنا أن نصل إلى مكان إيقاف المركبات، لكن أفول الشمس الذي كان أسرع سيرًا من سيارتنا بسبب وعورة الطريق فعدنا قافلين إلى الطريق العام. تحركنا ناحية إحدى القرى نلتمس حليبًا، خصوصًا أن المراعي الخضراء تجعل الأبقار تجود بأنقى وأحلى أنواع الحليب، وجدنا أنفسنا أمام بيت كبير وأمامه ساحة واسعة، وحوله أطفال يلعبون، فأطلت امرأة وقورة رحبت بنا، ودعتنا إلى النزول لكي تقدم لنا الضيافة، ولكننا اعتذرنا لأننا لو نزلنا من السيارة فسيكون ذلك سببًا كافيًا لأن تقدم لنا ذبيحة كاملة، أصرت علينا بأن ننزل، ولكننا اعتذرنا لها، وقلت لها يكفينا الحليب كعادتنا عندما نمر على أي قرية أو دار في جبال ظفار، نتصرف كما لو كنا في بيوتنا، ونطلب بكل أريحية الحليب، ونستحي أن نمنح مقابلًا لذلك، فالناس هنا ككل سكان ظفار يعتبر الكرم من أظهر سجاياهم، يتأصل كرمهم في أعمق قيمهم.
دخلت المرأة وخلال دقائق أخرجت لنا كمية كبيرة من الحليب، وكانت لا تزال تصر علينا بأن ننزل، ونزولنا يعني أن تكرمنا برأس كما هي العادة هنا وفي جميع أنحاء الجبل والبادية شكرنا المرأة، وبقي سؤال يدفعني لأن أسأل عنها، لعلي أدعو لها، فاتصلت بصديقي علي بن سالم كفيتان بيت سعيد، وسألته من تكون تلك المرأة، وذكرت له بأنني سألت عن الأسرة فقيل لي بأنها أسرة بيت محود إلوون (محمد الأبيض) وهم من بيت سعيد وذكر لي بأن هذه المرأة تحفظ القرآن الكريم كاملا، وأنها حفظت أبناءها وبناتها، وساهمت في تعليم النساء في هذه الأنحاء الكثير من أمور الدين، وعلمت أنها مشيخية من طوي أعتير، وهي سليلة أسرة صالحة كريمة ومعروفة جدًّا في طاقة وطوي أعتير، وتذكرت فورًا الشاب الذي درسته في المدرسة السعيدية الثانوية وهو أحمد محمد بيت سعيد، وكنت أعلم بأن أمه مشيخية، فسألت هل تقرب للشاب أبو عبدالحكيم، فأخبرني بأنها أمه. أدركت سر الصلاح والكرم وكيف يتوارث، وارتباط ذلك بالمكان والزمان، فالأرض والناس هنا متمازجان، وحكايات نبي الصبر موغلة في العقل الجمعي، كما أنها منثورة في تفكيرهم وفي تصرفاتهم. تمنيت لو تقوم الجهات المختصة برسم خريطة لرحلة النبي أيوب من لحظة نزوله من البحر ومروره بهذه المنطقة حتى استقر في مقامه الحالي، الذي لا يمكن أن يكون هذا المكان عاديًّا كأي مكان.
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية
د.أحمد بن علي المعشني
المصدر: اخبار جريدة الوطن