لم يكن الشيخ أحمد بن سهيل شيرخاق المعشني قد ابتعد عنا كثيرًا منذ أن غادرنا صباح ذلك اليوم من سهل حمران متجهًا إلى مدينة طاقة حاملًا قربة من حليب الإبل إلى بعض أصدقائه، وعندما وصل إلى (كوت حمران) متجهًا شرقًا، قابل بعض القادمين من صلالة يزفون خبر التغيير الذي أشرقت شمسه من قصر الحصن بصلالة.
لم نكن نعلم شيئًا عن التغيير.
لم تكن هناك وسائل إعلامية، أقبل الشيخ أحمد شيرخاق يلهث، لم ينتظر حتى يستعيد أنفاسه وبدأ يسرد الخبر السار الذي كان حُلمًا بعيدًا.
أخبرنا أن جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ قد تسلَّم مقاليد الحكم، وأنه يعد شعبه بأن يكون فردًا منهم، وأن يشيع الأمن والطمأنينة ويطلق سراح السجناء، وأن يجعل المواطنين يعيشون سعداء، وأنه سيجعل عمان دولة عصرية قوية وذات نهضة. لم أكن أعي كثيرًا مما يقول سوى شيئين فرحت بهما جدًّا، خبر إطلاق جميع السجناء وفتح المدارس، كانت تلك الأمنيتان من أظهر أمنياتي، لأن أغلب جيراننا كانوا يومئذٍ سجناء في سجن الحصن وبعضهم مكث سنوات في سجن الجلالي بمطرح ولم تكن هناك مدارس في جميع أنحاء البلاد باستثناء مدرستين يتيمتين للتعليم الابتدائي في مسقط وصلالة. أقترب من جذوة النار اصطلي بها، يناولني أحد أبناء أخي كأسًا من الشاي الأحمر، ثم يدفع إلي بعد ذلك بقليل بحليب النوق اللذيذ، أتناول منه كل ذلك بيدي بينما لا يزال عقلي مع أحمد سهيل شيرخاق قبل نصف قرن.
تتحرك الأحداث في ذاكرتي وتوقظ معها المشاعر الجميلة، أترحم على السلطان الراحل وأطلب له العفو والمغفرة، وأن يرزقه الله الرحمة والجنة.
كانت حياة العمانيين عسيرة في تلك السنوات العجاف التي عاشها العمانيون قبل التغيير، ثم تلتها سنوات من الرخاء يجعل كل إنسان سوي يعيش على أرض عمان يشكر الله سبحانه وتعالى. في تلك اللحظة التي أتجول في ملفات ذكرياتي الجميلة وأستعيد الشريط التاريخي حيًّا في عقلي ومشاعري، وأنفض عني غبار الإرهاق بعد رحلة سريعة بسيارتي إلى سدح لمشاهدة هطول الأمطار الغزيرة وجريان الأودية والنظر إلى جبال الصلاة (جبال سمحان)، كان أخي سالم يستفز لهيب النار بمزيد من الحطب وينفخ فيه ليرفع قوته ثم يلقي عليه بقطع من الحجر لغلي الحليب، ويضع في زاوية من الموقد إبريق الشاي الأحمر اللذيذ، بينما شرع ابن أختي الشاب يتصفح عبر شاشة هاتفه الذكي تغريدات
(تويتر) تتضمن أخبار تعيين صفوة الكوادر العمانيين في مجالس إدارات شركات الاستثمار الحكومية، وجعل عقلي ينتقل في رحلات مكوكية بين إطلاق السجناء في عام 1970 وبين إطلاق قدرات الكوادر العمانية المؤهلة والمتعلمة كثمرة خمسين عامًا من البناء والتعليم وتحرير عقل الإنسان من رواسب الجهل ومن أسباب الخوف والإرهاب. الناس والعديد من هؤلاء الشباب، وهم يحملون تاريخًا من التحصيل العلمي والتميز المهني والأخلاقي.
ما أجمل ما يحدث خلال خمسين عامًا، وما أروع كل الخمسين عامًا التي مضت من عمر كل عماني، نصف قرن عشناه حاضرًا مزدهرًا لم تغب شمسه.
رحم الله ذلك الحاكم الإنسان جلالة السلطان الراحل قابوس الذي فجَّر نهضة عمان المعاصرة في عام 1970 وخلَّف لنا من بعده جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي يعمل ولا يتكلم ويمشي بين الناس ولا يكدّر صفو أحد، ويعمل ليل نهار برؤية حصيفة ويسابق الزمن لنفض غبار التعب والإرهاق عن مسيرة النهضة المباركة، يزيح اليأس والإحباط عن كاهل المواطنين، وتتحدث إلينا إنجازاته، ويعيد إلى النهضة حيويتها وشبابها ويحافظ عليها لتبقى حاضرًا.
د.أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية
المصدر: اخبار جريدة الوطن